في سيرة جارنا.. الجشي...!
ناهزتُ الخمسين؛ ولمّا أزل أتذكّر معروف الجارة العجوز التي استوقفتني في الطريق، قبل أن تأخذني إلى بيتها. كنتُ أعرج من أثر ”صَوَاب“ في باطن قدمي اليُسرى. جرح عميق من زجاجٍ مكسور. مضى عليه يومٌ أو يومان. أجلستني في المطبخ، ومسحت ”الغِشّايَهْ“ ب ”خَلَگه“ رطبة، ثم جاءت بعلبة وغمست في سائلها رأس ريشةٍ من دجاجة، ثمّ راحت تمسح على الجرح برأس الريشة. كان السائل حارقاً، لكنّها حفّزتني على أن أكون شجاعاً. بعد أقل من يوم؛ اختفى الألم، وتوقّف العَرَج، وبدأ الجرح يندمل..!
”أم حسين عبداللطيف“.. هكذا يسمّيها أهل حيّ ”الفتَيّهْ“. اسمٌ مختصرٌ لـ ”أم حسين أحمد عبداللطيف الجشي“. و”حسين عبداللطيف“ هذا جارٌ لم نكن نراه إلا في أيام ”الوَفَايات“، حيث يتوقف عن العمل في ”الخُضْرَهْ“، ويحرص على ”القرايَهْ“ في ”مربّعةْ“ منزله حرصاً دقيقاً. رجلٌ بدأ حياته كما يبدأ الكبار الكادحون الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم. كان عقد السبعينيات فرصة نموٍّ لأعداد كبيرة من رجال الأعمال القادمين من مشاريعهم الصغيرة. تفرّغ لمشروعه في تجارة الخضار والفواكه.
نحن الجيران لم نكن نرى جارنا ”حسين عبداللطيف“. كنا نرى الحاجة ”تقيَّة“ التي تحملُ صفة اسمها تماماً. ربّة منزلٍ صميمةُ لا شيءَ يُقدَّمُ عندها على مسؤوليات بيتها وأعماله. كان الثنائيُّ يعملان، كلٌّ في موقعه. ذات مساء؛ فزع الجيران في الحيّ على صوت صراخ في بيت ”حسين عبداللطيف“. وضع الصغير ”محمد“ يده في ”عصّارة“ الغسّالة الكهربائية. كانت المرّة الأولى التي أرى فيها غسّالة، والمرة الأولى التي أعرف أنها خطيرة..!
المشاهد الأولى للحيّ، ولبيت ”حسين عبداللطيف“ ما زالت عالقة في الذاكرة. مجرى ماء عين ”الفتية“، وباب منزلهم الجنوبي، وباب ”المربّعة“ الغربيّ. محل ”الكوّاي“ محمد القمر، محل ”سياكل“ حسين الزاهر ”، ثم لاحقاً“ بوفيه ”المدن،“ ماطور الماي ”الملاصق لجدار المنزل الشمالي، البركة الصغيرة المجاورة التي تغسل النساء فيها“ بُسطتَها" ومواعينها..!
وبيت ”حسين عبداللطيف“ يتوسّط كلّ ذلك مفتوحاً على أربعة شوارع، رغم صغره. وصاحبه جرّ
ابنه الأكبر ”عبدالمجيد“ إليه، فصار يغيب مثله، ولا يراه صبية الجيران إلا نادراً. لم يكد يصل عقد الثمانينيات إلى منتصفه؛ إلا ومشروع جارنا قد تطوّر وأصبح ”ثلّاجة“ لها نشاطٌ واسعٌ في الاستيراد والتسويق. حسناً؛ إنه نتاج رجلٍ أصرّ على أن ينجح؛ فنجح. نجح بكدّه وكدحه، وصبره، وتحدّيه عقبات النمو والتوسع. ومع ذلك؛ لم تنقطع تلك العادة المجدولة في أجندة نشاطه؛ عادة ”القراءة“، وفي منزله أيضاً.
اليوم، وأنا أتلقّى خبر رحيله، تداعت الصور تباعاً. صورة الجيران الطيبين الذي أكرموا جيرتنا لأكثر من عقد ونصف. صورة جارنا الذي كان غامضاً بالنسبة لي، ولم أتعرّف إليه إلا أواخر التسعينيات، حين تعاملتُ معه صحافياً وأعجبني منه اهتمامه بالتفاصيل الصغيرة، وشدّتني طريقته الخاصة والدقيقة في التعامل مع الأمور. أستطيع أن ألخّص فهمي لهذه الطريقة بأنها طريقة الرجل الذي يُجيد البناء والمُضيّ نحو المستقبل.
أحسن الله عزاء ذويه في فقده، وألهمهم صبراً وسلواناً، وأكرمه في وفادته عليه، وآنس وحشته، وأسبغ عليه من فضل عفوه ورضوانه، وحشره مع محمد وآله الطاهرين.