السبع يُزاحم الشعراء في احتفالية تأبينه..!
حتى احتفالية تأبينه؛ حملت قدراً شفيفاً من الفرح، يُشبه ما كان عليه حسن السبع في شعره وروحه وأناقته. فيلمان قصيران، وورقة نقد، وقصيدتان، وأغنيتان، وكلمتان، وعرض مسرحيٌّ واحد.. كلُّ ذلك مرّ خفيفاً سريعاً مثل قصائده الأنيقة، مثل أحاديثه المنتقاة، مثلما قههقاته العفوية.
كأن حسن السبع أشرف على حفل تأبينه بنفسه، وهذّب فقرات الحفل مستبعداً ما يُمكن أن يُترجمَ سواداً من حزن، وأحلَّ محلَّه مفرداتٍ من بهجةٍ. أو هكذا أراد فريق جمعية الثقافة والفنون أن يتمّ الأمر، واستعانوا بمن يعينهم على هذا الجذل. أعدُّوا ونفّذوا ”بوصلة للحب والدهشة“ فعلاً. ارتقوا، مع الشاعر، على أن يكونوا مؤبّنين..!
افتضّ فيلمٌ قصير مشهد الحفل.. ظهر السبع من أرشيف تكريمه قبل أشهر في سيهات، أطلّ وكأنّه يخاطب جمهور الليلة. أطلّ من الشاشة الكبيرة مغموساً بغزل مدينته التي حملها حتى في أسفاره. توالف المونتاج والدوبلاج، في إخراج محمد الفرج، استنطاقاً لحال مكتبة الراحل الخالية منه، إلى جانب استعادته في أمسيات شعر سابقة.. انتصب واقفاً وقال مخاطباً جمهوراً سابقاً ”جرت العادة أن يُكتب: يوجد مكان مخصص للنساء.. الآن؛ يوجد مكانٌ مخصص للرجال“.. ثم قهقه ضاحكاً وقهقه جمهور تلك الليلة.. ضحك السبع في ليلة تأبينه..!
حتى الفيديو آرت الذي قدّمه محمد سلمان؛ كان حفيّاً بالروح الضاحكة في الشاعر السبع. دقيقتان في سيرة الرجل، سيرة بصرية، سينمائية، على خلفية مقاطع شعر قصيرة.. ثم انتهى الفيلم القصير جداً بضحكات السبع التي يعرفها أصدقاؤه..!
حين جاء دور الفحص؛ جلس الأستاذ الدكتور سعد البازعي شافّاً عن صوتين يتحدثان عن صوتين. صوت الصديق وصوت الناقد، وكلاهما يقرأ صوت الشاعر وصوت الكاتب. البازعي والسبع يتقاطعان في الاشتغال في الأدب، وفي العناية بالثقافة الفرنسية، وفي مجايلة الصحافة. فوق ذلك؛ إنهما صديقان. إذن؛ كان البازعي يعرف عمّ يتحدث، وعمّن يتحدث. لكنه مال إلى صوت الشاعر، محلّلاً بعض جوانب التجربة، مستوقفاً عند نصوص.
وعلى غير عادة مناسبات التأبين؛ ليس في المساء كله إلا شاعران. عبدالوهاب أبو زيد ثم محمد الماجد، بينهما أكثر من فاصل. لونان من الشعر أرادا تكريم الشاعر الراحل، أنصت الجمهور الذي ملأ الصالة. بيد أن الشاعر السبع زاحم الشعراء الآخرين حتى في ليلة تأبينه. شعره هو هو الأكثر حضوراً قياساً بسواه..
قصيدتان له أُدّيتا في أغنيتين. أغنية ”الجارية“ بألحان حمد الرشيد وغنائه:
طفلة غرة.. حافيَة
تسكن الوزن والقافية
والفيافي التي عاث فيها اليباب
نبتت في تراب اليمامة
قبل المطر
وأغنية ”نرفانا“ بألحان محمد عبدالباقي وأداء ابنه عماد:
هي الأسنى..
إذا غاب النهار وغُيَّب المعنى
إذا لاحت تدفقت الليالي
لؤلؤاً.. كرزاً.. وألحانا
وإن خطرت تمنّى كلُّ من في الحيّ
أن يشقى بهذا الحسن أزمانا
وفوق الأغنيتين؛ هناك قصيدة ”مرآة بلقيس“ مُمسرحةً في أداء موني دراما أعدّه وأخرجه محمد الحلال، وأدّاه حسين يوسف. قصيدة كاملة تمثّلها يوسف على خلفية تقاسيم عود عزفها الحلال. ظهرت ”بلقيس“، ابنة الشاعر، طفلة، ويافعة، وعروساً. ظهر الشاعر أباً وصديقاً ومعلماً. كلمات القصيدة تلبست بأداء فرديٍّ صديقٍ جداً للمتلقّي، أو هكذا أقدّر..!
”روحه معنا في كلّ خطوة“.. هكذا علّق أحمد الملا، مدير الجمعية، حين حدّثته عن تنظيم الحفل. وعلى هذا الشغف كانت كلمة صديقه وزميله عبدالرؤوف الغزال الذي ألقى كلمة أصدقاء الشاعر. والغزال هو ”القرين“ المعنيّ في قصيدة السبع المعروفة. وإذ وقف مرتبكاً أمام الجمهور أعني الغزال كان صوته مشوباً بشيءٍ من حال الرثاء. ثمة سنواتٌ كثيرة خلطت حياة الغزال بحياة السبع. فكرة الفقد قاسيةٌ جداً على صاحب ”اليدين الناحلتين“ حين ألقى كلمته في صديقه.
الروح الراثية ظهرت، أيضاً، في كلمة العائلة. رائدة السبع جلست وقرأت ما كتبته سلفاً. ”ككل خميس، وكما عودتنا عليه في لقاءاتنا العائلية، نحضر الْيَوْمَ وقد أصبحنا أكثر عدداً بأصدقائك ومحبيك الذين ما برحت تذكرهم لنا بنوادرهم وذكرياتك معهم حتى أصبحنا نعرفهم تمام المعرفة، ونستشعر حضورهم معنا بأرواحهم في جميع لقاءاتنا الأسبوعية“. هكذا خاطبت ”عمّها“ مشيرةً إلى الحشد الحاشد الذي ملأ مقاعد مسرح الجمعية في يوم خميس ليس فيه عمّها..!
الروح الخنسائية؛ كانت منتبهة إلى نفسها في حزنها.. ”أعرف أنك ستقول لي الآن إن حديث الحزن والشجى لا يليق بخميسنا هذا وكل خميس، وأن في الحياة مكامن أخرى للخير وللجمال والفرح علينا الاهتمام بها فقط“.
على خفته وتنوّعه وكثرة فقراته؛ انتهى الحفل سريعاً، كأنه اختُتِم والجمهور الكثيف ما زال ينتظر المزيد. كأن عريفه، المذيع محمد الحمادي، فاجأ الناس بأن روح الشاعر تتمنى لهم ليلة سعيدة.