آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 3:50 م

في كانون

جاء شهرُ كانون وبدأَ الشتاءُ يدخلُ من نافذةِ الحياةِ ويتسلل الخريفُ دون أن يراهُ أحد.

نَظَّرَ الإغريقُ لكون الإنسانِ وقدرتهِ على إنجاز الواجباتِ البدنيةِ والذهنيةِ والعاطفيةِ يخضعُ لدوراتٍ زمنيةٍ يمكن حسابها وهي عبارةٌ عن دورة بدنية عددها 23 يومًا ودورة عاطفية مقدارها 28 يوماً ودورة عقلية مقدارها 33 يوماً. مع أنها لم تثبت بالقطعِ ولكن لا يستبعد ارتباطُ الإنسانِ بدورةِ الحياةِ الكبرى وكونهِ جزأً منها مثل المدِ والجزرِ والفصولِ الأربعةِ والظواهرِ الفلكيةِ الأخرى التي يمكن حسابها.

ليس بمقدورنا المعرفة الدقيقة بكل دوراتِ الحياةِ وتعقيداتها والتخطيطِ لها جيداً ولكن من المؤكدِ أننا نعرفُ الدورةَ الكليةَ لحياتنا، طفولةٌ ثم شبابٌ ثم شيخوخةٌ ثم غروبُ شمسِ الحياةِ دون استثناء. هذه النظريةُ تجري على الفردِ والحضاراتِ والأممِ والدول، قد تختلف في مدةُ دورتها ولكنها تتشابهُ في النشأةِ والبقاءِ  والأفول. 

تستدعي هذه المعرفة الاعتناء والتخطيط  لما هو قادم كي لا نبدو تائهينَ في مسالكِ الحياة. من يبيعُ كتاباً في الحياة فهو يبيعُ قميصاً يمكن لأي فردٍ أن يلبسهُ بدل أن يخيطَ المرءُ قميصه بنفسه. تأتي الأيامُ بما يجعلنا نقبل لبسَ القميصِ دونَ حياكتهِ مَثَلُنَا مثل زوجةِ الفلاحِ التي اشتكت إليهِ ضيق المسكنِ فجاء في اليوم التالي بحمارٍ وأسكنه باحةَ المنزل. تضايقت المرأةُ كثيراً فجاء بِقن دجاج في اليوم التالي ووضعهُ في حجرتها. صرخت المرأةُ من ألمِ المنظرِ فأضاف ديكاً في اليوم الثالث. خشيت أن يأتيَ بما هو أسوأ، لاذت بالصمت. أخرجَ الرجلُ الديكَ ثم الدجاجَ ثم أخيراً الحمار. فرحت الزوجةُ وبدا المنزلُ كبيراً  في عينها بعد ذهاب الحيواناتِ ولم تعد تشكو ضيقَ المكان.

جاعَ صديقُ شهرِ كانون يومَ كان فتىً صغيراً يمشي في الحقولِ مثل هذه الأيام قبل أربعين سنة. رأى حُمرةَ الطماطم فأغرتهُ أن يسرقَ بعضاً منها لكن لسوءِ حظهِ لم يكد يقطف بعضها حتى باغتهُ الفلاحُ وقبض عليه بيديه الخشنتين وأوسعه ضرباً. لم تعجب الصغير قسوة الكبير. أقسمَ في قرارةِ نفسه أن يشتريَ أرضاً ويزرعها كما يشاء. دانتِ له الأيامُ بما أراد.

لا نستطيع نحن البشر أن نعرفَ معنى ”الحياة“ ولا أسرارَ دورتها الخفيةِ  لكننا نستطيع أن نجعلها أكثرَ جمالاً في خفايا لياليها وأيامها بأن نُخططَ لما نعلمهُ من كلياتها وفصولها. الحياةُ أجملُ حينما نعرفُ أننا عندما نكون في أعماقِ أوديةِ القوةِ والعاطفةِ نجدُ يداً تمتد وترفعنا إلى القمة وعندما يكون الآخرُ في حَضِيضِ وادي الحاجة، إن كنا لا نقدر أن نشتريَ حقلاً فليس لنا إدخالَ الحمارِ إلى كوخهِ حتى يراهُ واسعاً وجميلاً. الحياةُ هي السعادة  في تحقيقِ الأهدافِ والقيمِ والأخلاقِ والإرادةِ والخيرِ والإيمان، هي إن صرخَ إنسانٌ من الألمِ سمعته آذانُ البشريةِ كلها. هي كلُّ المشاعرِ التي لا تشبهُ  الموتَ وفلسفةٌ لا يحتويها كتاب.

مستشار أعلى هندسة بترول