التنشئة وأثرها في تشكيل ثقافة الأجيال
العنف الكلامي والسلوكي وممارسته أصبح جزء من السلوك اليومي في بعض المجتمعات، حيث تحول إلى نمط وأسلوب حياة. وهو أمر لم يحدث بشكل عفوي وطارئ، بل تراكم عبر السنين بفعل التربية، وخصوصاً التربية العدائية، وتنشئة الفرد على أن يكون شخصية عدوانية تجاه الآخر. فسنوات التنشئة الأولى من عمر الطفل تؤثر كثيراً في بناء مهاراته، وتكوين شخصيته المستقبلية، إذ أن تصرفات والديه ومن حوله لها دور في تشكيل شخصيته، إيجاباً أو سلباً، وتحديد ما إذا كان سيصبح ذو ميول خيرة أو شريرة.
فالتربية العدوانية حين تتحول إلى ثقافة تستمر مع نشوء كل جيل جديد، حيث يتربى الناشئة على ثقافة العنف والتخويف والخوف من الآخر وكرهه من خلال الأهل، والموروث الاجتماعي والثقافي للجماعات التي ينتمون إليها، وما تحفظه الذاكرة من تصورات ذهنية عن بعضهم البعض، حيث تلعب الأزمات التي تمر بهم في إثارة المشاعر السلبية تجاه بعض، بالإضافة إلى التعبئة الإيديولوجية والإعلامية التي تضخم الأمور بشكل غير منطقي، وتُحرِّض على ثقافة العنف والكراهية.
وبهذا المعنى يمكن القول بأن العنف المستشري في العديد من المجتمعات هو في الأصل ثقافة قبل أن يكون سلوكاً أو ممارسة. فالتنشئة التي يتعرض لها الفرد في مجتمعه هي بمثابة الوعاء الثقافي الأول الذي يشكل حياته، وتكسبه المهارات والقيم والاتجاهات والعلاقات وأنماط السلوك والثقافة التي تتوافق وتنسجم مع البيئة الاجتماعية التي ينشئون فيها. فكل مجتمع يختار من البيئة الثقافية ما يراه هاماً، ويقوم بتفسيره وتقويمه وإصدار الأحكام عليه ومن ثم تنشئة الأطفال وتثقيفهم به، وهو الأمر الذي يؤثر على اتجاهات الطفل وسلوكه.
فالطفل ينظر إلى ما يدور حوله من وجهة نظر أسرته، والبيئة التي ينشأ في كنفها، ويتأثر بنوع الآمال التي تصنعها الأسرة لمستقبلها. فهي تنقل الميراث الثقافي بطريقتها الخاصة، بل أنها تطبع الثقافة عند نقلها إلى أطفالها بصورتها الخاصة، وهو ما من شأنه تكوين معالم الطفل وقيمه، ولا يستطيع أن ينعم بالاستمرار والهدوء في حياته ومجتمعه إلا إذا امتص هذه المعايير والقيم واعتبرها جزءاً من كيانه.
إن البنية الثقافية التي تُشكل شخصية الفرد وتُسيُّره، وتنعكس في سلوكه وممارساته، هي نتاج عملية التثقيف التي يتعرض لها من خلال التنشئة الاجتماعية، وذلك حسب ما تنقله موسوعة ويكيبيديا، "حيث تسهم أطراف عديدة في عملية التنشئة، كالأسرة والمدرسة والمسجد والرفاق وغيرها. إلا أن أهمها الأسرة بلا شك، كونها المجتمع الإنساني الأول الذي يعيش فيه الطفل، والذي تنفرد في بناء شخصيته وتشكيلها لسنوات عديدة من حياته.
والتنشئة الاجتماعية هي عملية مستمرة، تُشكل الفرد منذ مولده وتعدُّه للحياة الاجتماعية المقبلة التي سيتفاعل فيها مع الآخرين في أسرته. وهي من أهم العمليات تأثيراً على الأبناء في مختلف مراحلهم العمرية، لما لها من دور أساسي في تشكيل شخصياتهم وتكاملها، وهي تعد إحدى عمليات التعلُم التي عن طريقها يكتسب الأبناء العادات والتقاليد والاتجاهات والقيم السائدة في بيئتهم الاجتماعية التي يعيشون فيها.
كما هي ”أي التنشئة الاجتماعية“ عملية تعلم وتعليم وتربية، تقوم على التفاعل الاجتماعي، وتهدف إلى إكساب الفرد «طفلاً فمراهقاً فراشداً فشيخاً» سلوكاً ومعايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية معينة، تمكنه من مسايرة جماعته، والتوافق الاجتماعي معها، وتكسبه الطابع الاجتماعي، وتيسر له الاندماج في الحياة الاجتماعية".
خلاصة القول إن الميول الخيرة أو الشريرة في النفس البشرية ترجع إلى نوعية البنية الثقافية المجتمعية التي تُسيِّر أفراد أي مجتمع، والقيم المجتمعية التي يتربون عليها. فشخصية الفرد وصفاته هي نتاج القيم التي تغرسها المجتمعات في نفوس أفرادها. فإما تُربي فيهم القيم الإيجابية، وتُحفزهم ليكونوا متصفين بالأخلاق الفاضلة، وحب الخير، والميل إلى التسامح والاعتدال والوسطية والنقاش والحوار، والإيمان بالتعدد والاختلاف في الرأي، والدعوة إلى التعارف والتفاهم مع الأقوام والجماعات البشرية المختلفة والقبول بهم كما هم، ورفض العنف وممارسته. وإما على العكس من ذلك تُربي فيهم القيم السلبية ليكونوا ميالين إلى التشدد والغلو والتعصب والتطرف، والانعزال والتقوقع على الذات، ورفض الآخر وكراهيته وبغضه، والقطيعة معه، والاستعداد لممارسه العنف ضده.