آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 3:17 م

محاكاة المستقبل

ربما فكرتَ في كتابةِ بعض الذكريات والمواقف في حياتك البسيطة أو العظيمة أو قرأتَ ما كتبه الآخرون عن حياتهم، تجد نفسك وتجدهمْ يكتبونَ عن أسرتهم، أصدقائهم، أيام صِباهم وتنقلاتهم في الحياة في صفحاتٍ كأنها روايةٌ نسجتها الليالي بأصابعَ سحريةٍ في حبورٍ لم يَشَبْهُ حزن. السؤال الملح هو لم الحنين إلى الماضي ولِمَا يبدو ذاكَ زمناً جميلاً مع قلقه ونجاحه أو عثراته حينها؟ لم يكن الماضي أجمل ولم تكن الحياة فيه أسهل ولا العيش أرغدْ ولا حتى كل الناس أطيب، وربما يوجد تفسيرٌ لبعض هذه الأحاسيس سوى وقوعها في الماضي. يحمل الماضي ما يحمله اليومُ وسيحملهُ الغدُ من صعوباتٍ وأسئلةٍ تحتاج إلى جواب قد لا نجده.

ربما علةُ شوقنا وتوقنا إلى تذكر الماضي هي ”النوستالجيا“ التي تغلفه  بسبب انكشافهِ ومعرفتنا بما حدث فيه وأنه لم يكن مستحيلاً علينا العبور فيه ومنه إلى الضفة الأخرى من الحياةِ ويبقى بعدها الشق القصصي وما فيه من أدواتِ إثارةٍ وألقٍ لمن لم يشاهده أو يحضره.

عندما يكون الحاضرُ مثقلاً بالأزماتِ والمستقبلُ أيامه حبلى بالمفاجآت وفيه عناصرٌ ليس في قدرتنا الإحاطة بها ولا نستطيع ابتكار المحاكاة التي يُستحضر فيها الماضي من أجل تكوين صورةٍ للمستقبل، يكون فيها ماضٍ معلوم ومستقبلٌ مجهول، وكلما زادت دقة المعرفة بالماضي أصبحت معرفة المستقبل والخوف من الخطأ في استشرافهِ أقل ولكن يبقى كله في الغيب وتنتج عنه عدة احتمالات وفرضيات لما قد يحدث. ما يزيد في صعوبة المحاكاة هو أنه ليس في مقدورنا بناءَ نموذجٍ يكون نسخةً مطابقةً وتنفيذ الاختبارات على نموذجِ الماضي أو الحاضر ودراسةَ النتائجِ أو ابتداع حاسوبٍ يمكنه خلق ظروف برمجية مشابهة للمستقبل والنظر إلى النتائج.

التاريخ بكل تأكيد لا يعيد نفسه فالزمن لا يعود في أي من الإحداثيات الفيزيائية ولكن الحقيقة العارية أن البشرية ترتكب وتكرر الخطايا ذاتها فتأتي النتائجُ متشابهةً مما يجعلنا نتصور عودة التاريخ وإن بمقياسٍ أكبر من عمر الفرد. لكي تتغير النتائج لا بد من تغيير مقدماتها والمعطيات المؤديةِ  إلى حدوثها.

المعرفةُ النسبيةُ للماضي وعدمها للمستقبل يستدعي أن ينصب الجهد على تقليل مخاطر المستقبل واستخدام كل أدواتِ الاستشراف لعبوره بسلام. كما تستدعي الإقلال من إقحام الماضي أكثر مما ينفع في استقراء المستقبل وعدم لبسه والعيش فيه مثل الشرنقة. نعلم أن الذكريات جميلة والماضي لنتذكره ولا لنعيش فيه وعلينا ألا تتوقف عن خلق تاريخٍ يقرأه أجيالنا في المستقبل.

لا يجب إهمال الماضي فهو ما أسس للحاضر ولكن في حماوةِ إلحاحِ الحاجةِ إلى التعاملِ مع تحديات الحاضر واستشراف المستقبل في كل جوانبه لابد من الغرف من معين الماضي بما ينفع وتستدعي الحاجة وليس في كل شاردةٍ  وواردة. لا بد أن تلبس المجتمعاتُ الحكمة بدلاً من أن تبقى في ثوب الماضي الذي يبدو جميلاً ويفوتها خلق ما هو أجمل لاجيالها. الاستسلام للماضي يجعلنا محبوسين بين رفاتهِ دون العراك والحركة لصنع حاضرٍ ومستقبلٍ ومن ثم تاريخاً أكثر فائدة وإغراءً لمن بعدنا.

مستشار أعلى هندسة بترول