ملة إبراهيم - الحلقة العاشرة - الإيمان بالكتب
للإيمان بالرسل إيماناً تاماً دون تفريق علاقة وطيدة بالإيمان بالكتاب، فالتفريق بين الرسل وتمزيق مشروعها الموحد إلى مشاريع متفرقة هو مدعاة للكفر ببعض الكتاب، ولا أدل على ذلك من صورة الالتحام للرسول بالكتاب لفظاً ومعنىً في مواطن عدة في كتاب الله، فعلاقة الرسول والكتاب هي علاقة تطابق يحفظ فيها الكتاب بين دفتيه شكل الرسول ومضمونه وأقواله حفظاً يتعذر فيه خطف الرسول إلى جهات أخرى غير الله. وبهذا الالتحام يمكننا أن نفهم ماذا يعني التفريق بين الرسل وما انعكاس ذلك على الإيمان بالكتب ”كل الكتب“.
التفريق بين الرسل وتقطيعها زبراً بين الأحزاب يقود إلى التفريق بين الكتب السماوية التي يأمر الله سبحانه وتعالى أن نؤمن بها كاملة مقيدة بشرط الوحدة. ذلك بأن الطوائف التي انحرفت عن الملة إلى بعض أهوائها لم تتمكن من ذلك إلا حين خطفت رسولها من طابور الأنبياء وأخرجته من ذلك الإصطفاف الطبيعي ورسمت لها خارطة جديدة تعزز من كيانها كأمة ممتازة عن بقية الأمم بما نسبته من أقوال مزعومة لذلك الرسول المخطوف. وهذا حتماً لا يكون إلا حين توفق تلك الأحزاب بين الكتاب الذي تدعي أنها مؤمنة به وبين ما هي عليه من حزبية وطائفية وتعال، لأنها مالت عن كتاب الله إلى غيره، والمشكلة أن ذلك الغير جاء مقنعاً بقناع الرسول مختوماً بختم له مزور، أنه قال لكنه لم يقل، وبتلك الأقوال يفرق أهل الغلو والعلو بين هذا الرسول وبين بقية الرسل، فيخرج من أمته الواحدة، ويفرق بينه وبين الله.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾[1]
إذاً ما تبقى لهؤلاء هو بقية باقية من الإيمان بالكتاب، فجل إيمانهم خطفته أقوال مزورة جعلت من الرسول نداً لله لا مطيعاً مسلماً لكلماته، ولم تستطع كلمات الله البيّنة أن تنزع منهم شيئاً مما تشربته قلوبهم من كلمات ما أنزل الله بها من سلطان. ولكي يُبقوا تلك البقية الباقية من إيمانهم بالكتاب تعزيزاً للتبرير وإسكاتاً للضمير اتخذوا بين ذلك سبيلاً، سبيل يوفق بين ما وجدوا عليه آباءهم وبين ما يفرضه الكتاب من حقائق إيمانية تنافي ماهم عليه. والآية فاضحة كاشفة بأن ما هم عليه هو إيمان مزور لا حقيقي وأنه لا إيمان مجزء للكتاب، ولا إيمان لمن يفرق بين الله ورسله ويبتعد بكلمات مزورة عن كلمات الله، ولا مصداقية لمن يناهض مشروع الكتاب بمشروع آخر مزيف باسم الرسول، يفرق به بين الأمم ويستبدل القسط الرباني بالحيف لصالح أمة لتكون هي أربى من بقية الأمم.
﴿أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً «*» وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾[2]
وما قد نلاحظه في تتمة الآيات هو وجود عبارة ”التفريق بين الرسل“ كبديل عن عبارة ”التفريق بين الله ورسله“ التي وردت في الآية السابقة «150»، وما تغيير اللفظ هذا إلا تأكيد على التطابق في المضمون والنتيجة، فالتفريق بين الله ورسله يكون بعدم تطابق الأقوال المزعومة لرسول كل طائفة مع أقوال الله في كتبه، وهذا ينعكس في جانب آخر على عدم تطابق الأقوال بين ذلك الرسول مع بقية الرسل، فكل أمة خطفت رسولها إلى جانبها، وأبعدته عن حبل الله الممدود إلى حبل آخر هي تريده.
الإيمان بالكتب هو التصديق بها، ولقد اشترطت ديباجة سورة البقرة المباركة أن يكون إيمان المؤمن بالكتب السماوية كلها فضلاً عن الإيمان بما أنزل على النبي محمد ﷺ، ومطلب الإيمان بجملة الكتب هذا يعكس جانباً هاماً وهو الإيمان بوحدة هدف الرسل وإن تعددت أدوارهم، وهو إيمان بتطابق الرسالات مع بعضها البعض، وتطابق أقوال الرسل مع ما ورد في الكتاب، وأن أي إخلال في هذا التطابق هو إخلال بحقيقة الإيمان الذي لايمكن له أن يتجزأ.