ما أرأفك يا رسول الله
قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ ﴿الأنعام الآية 33﴾.
ما أعظم تلك الرحمة التي احتواها قلب رسول الله تجاه الناس حتى من عاداه وكفر برسالته، فقد كان يتألم ويعتصر قلبه كمدا على الحال السيء لهؤلاء المكذبين للحق وما ينتظرهم من مصير قاتم، فأي حب للغير أعلى درجة من الهم والحزن لحال العدو؟!
وتكذيبهم بالرسالة المحمدية لا يرتكز على تقصير في الأداء أو ضعف في العرض والحوار، فحاشا رسول الله من أي لون من ألوان ضعف التبليغ، بل إنه بذل غاية جهده ووقته في سبيل الدعوة وتعريفهم بآيات الله تعالى وتحذيرهم من عقاب الجحود والتكذيب، ولكنهم لم يلاقوا هذه الدعوة الفكرية الهادئة بحوار يستعرض الأدلة ويناقشها، بل قدموا في جوابهم ورد فعلهم على دعوته قلوبهم المختزنة لمشاعر الكراهية والأحقاد، فعيونهم يتطاير منها شرر العدوان والأذى والمجابهة بكل وسائل البطش والتنكيل، واستعدوا في المواجهة النفسية لاعتماد أسلوب بث الأكاذيب والافتراءات حول شخصية الرسول، بادعاء أنه كاهن تارة وساحر تارة أخرى وغيرها من الشائعات، لعلهم يظفرون حينها بمبتغاهم وهو إقامة سد منيع يحجز الناس عن جاذبية الدعوة التوحيدية السمحاء، والتي يقدمها عظيم في أسلوب حديثه وفي خلقه المتسم بالتواضع والصبر، ولم يكن لوسائلهم الماكرة أي تأثير على إرادة رسول الله القوية في تبليغ رسالات الله، وتلك الترهات لم تلق تجاوبا ممن يشاهد أمامه عظمته ﷺ، فكيف لسراب الكذب أن يصمد أمام حقيقة ماثلة هي شخصية عظيمة لا يمكن تكذيبها، وقد عهد منه دائما الصدق والأمانة منذ نعومة أظافره، فقد نشأ بينهم ولم يعهدوا منه عيبا أو ارتكاب موبق أو خفة في التفكير - حاشاه -.
وما كان يؤلم قلب رسول الله ينطلق من بعد هو حب الجميع والأمل برؤيتهم بأحسن الأحوال وأفضلها، وأن يصلوا إلى أعلى مراتب الفضيلة والكمال، أفلا يحزنه أن يراهم يسيرون بعمى بصيرة وغفلة نحو حتفهم ومهلكهم بتكذيب رسالات الله الموجبة لاستحقاقهم النقمة والعقاب الإلهي؟!
وها هي الرأفة والرحمة الإلهية تصب السكينة على قلب رسول الله وتخفف عنه ألم تكذيبهم ومسيرهم نحو الشقاء، ففي الحقيقة لا يستند على فقدان قناعة بكلام رسول الله، او أنه يفتقد في بلاغته وسلاسته لمقومات القبول والترسخ في الذهن يقينيا، بل الأمر يتعلق بمصالحهم الدنيوية وطلبهم الحثيث لمتاعها الزائل، ومكانتهم الاجتماعية القائمة على الطبقية والعنصرية ذات بعد آخر يجعلهم يبدون الرفض لدعوة التوحيد، وإلا فإن كتاب الله وعظمة شخصية رسول الله وفحوى ومضامين دعوته الأخلاقية الملامسة لفكر ووجدان الإنسان كلها براهين على صدق دعواه، ولكنهم استشعروا الخطر المحدق بمنافعهم الضيقة فأبرزوا حراب العدوان والتكذيب بكل ما أوتوا من قوة.