آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 1:55 م

مسافرون

المهندس هلال حسن الوحيد *

زرتُ البحرَ يومَ أمسٍ، العاشرةَ صباحاً، ولم يستيقظ بعد! قليلٌ من الناس يصطادونَ ما تخلف من أسماكٍ وطيورٌ مهاجرةٌ تقتاتُ في المياهِ الضحلة. من قالَ أن مصدرَ الطاقةِ ومنبعَ الجمالِ وقوتَ الفقراءِ ومعبرَ الحريةِ غدار! رمتني بدائها وانسلت.

يُعلِّمُ البشرُ أبنائهم الأضدادَ في سنٍّ مبكرة. يناغونهم في المهدِ صغاراً رجاءَ أن ينطقوا بكلمةٍ قبلَ أقرانهم، وقبلَ أن يشتدَّ عودهم يطالبونهم بالمشيِ ويحتالونَ بكل حيلةٍ كي يمشيَ الطفلُ بمفرده، ويجبرونهم على النهمِ ويزدادُ وزنهم، لكن ماذا بعد؟

حينما ينطق الطفلُ يطالبونه بالسكوتِ ويعلمونه فوائدَ الاستماعِ وأنَّ الحكمةَ في الصمتِ ومن كثرَ كَلامُهُ كَثُرَ خطأه ولِسانكَ حِصانكَ إنْ صنتهُ صانك. ولا يكاد يدبَّ حتى يطالبونه بالجلوسِ وعدمِ الحركةِ والانضباط ومتى ما زادَ وزنه حرموهُ من الأكلِ ونصحوهُ بأن المعدةَ بيتَ الداء، مسكينٌ هذا الطفل، لا يفهم المعنى من كلِّ هذا ولا يدرك أن لكلِّ شيءٍ ضد.

يتعلم الطفلُ من البحرِ والطيورِ أن بعضَ الصفاتِ والأفعالِ ليس لها أضدادٌ يجب عليه التقيد بها أو تبنيها في أي مرحلةٍ من حياته. صغاراً كان يستهوينا جمالُ الطيورِ التي تمر بنا في موسمِ هجرتها ولم يكن همنا البيئةَ وندرةَ الطير. نصطادها ونتلهى بها غيرَ عابئين بهدفِها في  حرية التكاثر لتحافظ على سلالتها من الإنقراض، والحريةَ في الأمن الغذائي حيث يكون نوع الطعام الذي اعتادت عليه في موطنها يختلفُ ويقل في الشتاء لذلك تذهب بعيداً حتى تجد مصدراً آخرَ لطَعامِها، والحرية في السلامة الجسدية بعيداً عن برودة الشتاء القارسة والبيات في مكانٍ يلائم جسمها. تفعلُ الطيور كل ذلك وهي غير مدركةٍ للأضداد، لا تُعلمُ صغارها سوى الطيرانِ والتحليقَ والحريةَ وإن كان ذلك يعني المعاناةَ والهجرةَ وتغييرَ المسكن.

قلد الإنسانُ الطيورَ واخترع الطائرةَ التي تعبر المحيطات ولكن بقي البحرُ معبر البشرِ إلى الحرية والجانبِ الآخر من الحياة. في زمن الحروب لا تقتصر الهجرةُ على الطيورِ بل من كان ينتظرُ عبورَ الطيورِ أصبحت الطيورُ تنتظرُ عبوره. يركبُ البحرَ كلَّ سنةٍ مئاتُ الآف ممن يحب أن يرى العشب الأكثر خضرة ويبتلع البحرُ بضعَ آلاف منهم. عملٌ لا يمكن وصفه بالغدر عندما نرى أن جلهم سيموت في بلدهِ بحد السيفِ أو غيره إن لم يركب البحر. حتى أهل الخليج لم يعودوا يطربون لصوتِ النهام ”وش لك بالبحر وأهواله ورزق الله على السِيف“ ومات العربيُ الذي قال:

إذا ما ذكرتُ الثغرَ فاضت مدامعي

وأضحى فؤادي نهبةً للهماهمِ

حنيناً إلى أرضٍ بها اخضرّ شاربي

وحُلّت بها عني عقودُ التمائمِ

وألطَفُ قومٍ بالفتى أهلُ أرضِهِ

وأرعاهُمُ للمرءِ حقَّ التقادُمِ

من علم الطير أن الحرية ليس لها ثمن؟ قيمةٌ لا يدركها الإنسان بعد.

كَتَبَ شخصٌ على جداره ”اذا احببتَ شيئاً فاتركه حراً، فإنْ عادَ فهو لك، وان لم يعد فما كان لك من قبل“. تعودُ الطيورُ لوطنها إذا ما انتهت هجرتها ونادتها سَاعتُها البيولوجية بالرجوع ولكن ليس الإنسانُ الذي يؤمنُ بالضد ولا توحشه الغربةُ إذا ألفها:

نَبَتْ بك الدارُ فسِرْ آِمنَاً

فلِلفَتى حيثُ انتَهى دارُ

مستشار أعلى هندسة بترول