صفر.. سيرة الحزن المقدس
يدخل شهر صفر في كل عام ويخرج وكأنه برزخ طويل للحزن، حيث ينتخب الناس لهذا الشهر روزنامة مثقلة بأوجاع الرحيل، ويطرزون من عباءة الحزن طريقا يعبرونه بين مناسبة وأخرى، الذين يضعنون بين ضفتي الحزن، محرم وصفر، في مدن الأحزان الكربلائية، يعرفون تلك النسائم التي تتلو عليهم تراتيل المصيبة نهارا ومساءً، ويعرفون هذا الجسر الواصل من أول محرم حتى آخر يوم في صفر وهم يمشون فيه باتجاه المآتم وحلقات النياحة.
يبدأ مختبر الأحزان الصفري في سابع الأيام بوفاة الإمام الحسن المجتبى، ثاني الأئمة في الترتيب لدى الإمامية، ثم استشهاد الإمام علي الرضا، سابع الأئمة في اليوم السابع عشر، ثم مناسبة الأربعين في العشرين من الشهر، وهي مناسبة مرور أربعين يوما على استشهاد الإمام الحسين بن علي، ثالث الأئمة، وينتهي بوفاة النبي محمد في يوم 29 من الشهر، وهي التي تأخذك بنهايتها إلى نهاية فصل الأحزان الممتد من محرم إلى صفر، فيما يرشح العامة مناسبات أخرى تستبق النهاية وتوقظ للحزن مناسبات من سبات الذاكرة، وهي وفاة ”السيدة فاطمة بنت أسد“ و”السيدة مريم بنت عمران“، ووفاة ”النبي يحي بن زكريا“، وأولاد ”مسلم بن عقيل“.
في حضرة صفر يختفي الفرح، مثلما هو محرم الحرام، المدينة بكاملها تنأى عن الإعلان الصريح للفرح الذي يتوارى خلف أبواب موصدة حتى آخر ساعة من ساعات الشهر، للحزن قداسة ترتفع فوق كل احتمالات الفرح، سيتخلل الشهر مواعيد مقدسة كولادة الإمام محمد الباقر، خامس الأئمة، والإمام موسى الكاظم، سابعهم، غير أن إيقاع الحزن في هذا الشهر لا يتحمل استدراكا على سلم الإيقاع.
هذا الفائض من الأحزان سيستدرج كامل الشهر إلى صورته، إلى أيقاعه ولونه، لا شيء يحول بين الناس وبين وصفه بالنحوسة والشؤم بعد كل هذا الألم المنثور على صفحاته، لن يكفي أن تكون الروايات المتداولة غير معتبرة لحمل الناس على عدم الاعتقاد بهذه الملازمة بين النحوسة وصفر، إلى الحد الذي سيجعل البعض يتكئ على هذه الصورة في شرح يومياته ومابها من ارتباكات!.
”طلع صفر بشره وشروره“، هذا لسان البهجة للذين يتمادون في التعبير عن الفرح بخروجه، ”حرگناك يا صفر على طوير واعتفر“، هذا قولهم وفعلهم حين يستقبلون مواسم الفرح بقداس انتقامي من ليالي الدموع، يلتفتون بغضب إلى يوميات موشومة بالحزن برسم أيديهم، غير أنهم ينتظرون هامش الفرح بفارغ الصبر، كما كانوا ينتظرون الحزن، لأن الأخير كان مقدسا، والأول هو السيرة الطبيعية للكائن الحي.