آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 1:20 م

دروس وإضاءات في الطريق إلى الحسين (ع)

صالح البراك

﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[سورة النساء 100]

ما إن وطأت رجلاي أرض المطار حتى بدأت تتقشع أثقال الهموم والغموم والضغوط النفسية التي جئت محملا بها من حيث كنت. وفي المطار حيث محطة الإقلاع تعرفت على بعض المؤمنين إذ فرحت بهم ليكون كل منا عونا لصاحبه في طريق المسير الى الحسين وكونهم تأخروا في إنهاء إجراءات جوازاتهم خرجت لاستلام الامتعة وفِي هذه الأثناء انتهزت الفرصة لاشتري شريحة جوال وعند رؤية المحل مكتظاً خشيت ان يطول بي الإنتظار ويستبطئني الاخوة ويذهبوا في طريقهم وفعلا ما خفت منه وقعت فيه ولا سيما أني في السنوات الأخيرة فقدت كوكبة من اعز الاصدقاء ارتحلوا الى الرفيق الاعلى تباعا، كنت أزور هذه الديار برفقت بعضهم وأتشاطر هموم الزمان معهم.

فخرجت من المطار ويأسرني شعور بالوحدة والحزن لا رفيق او صديق يُشاطرني الطريق، فوقفت هنيئة على مقربة من صالة القدوم علني احضى بغيرهم لكن لا جدوى، وبعد طول انتظار قررت بعدها أن أذهب لزيارة الأمير وأنا في حيرة من أمري كيف سأسلك الطريق وكيف ستكون خطة سيري هل اسير كامل المسافة ام جزء منها وأسئلة كثيرة اخرى تساورني استأجرت سيارة أجرة وامنت حقيبتي الكبيرة عند احد المعارف ثم اقلتني بحقيبتي الصغيرة الى حرم الإمام علي حيث بدأت تهب نسائم الرحمة لتداعب روحي العطشى بعد أن تلامس قبتة الشريفة وتكتحل عيني برؤية ذلك الضريح الذي ضم بداخله جسد سيد الاوصياء وإمام المتقين، وبعد صلاة العشائين والزيارة قررت المضي في رحلة الحياة الى حيث إمام الخلود وحدي «وكما خلقناكم تعودون تبدأ فرد وتحشر فرد».

حينها ادركت مشيئة الباري فيما دبره لي من امر المسير لوحدي جلت حكمته ومن فوائد ذلك: اني حر في تدبير شؤني الشخصية من مبيت واستراحة وتحديد المسافة التي سأقطعها وغيره، كما اني وظفت وحدتي في التفكر في اسباب واهداف خروج الإمام الحسين من المدينة المنورة إلى كربلاء المقدسة حيث قال فيما اوصى به اخوه محمد إبن الحنفية مما يوضح اهمية الوصية وتحديد الهدف من السفر «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي رسول الله لآمر بالمعروف وانهى عن المنكر"»

يالها من أهداف واضحة وعظيمة ونبيلة «مكتملة العناصر إداريا رؤية، رسالة وأهداف» فقلت إن كان هذا خروج الإمام وهذه أهدافه فما هي مبررات واهداف خروجي إلي زيارته والمشي في خطاه إلى مثواه الأخير حيث كعبة الاحرار، وماهي اهدافي المعلنة وماهي اهدافي الخفية من تلك الزيارة. وبت أحادث نفسي:

- هل خرجت من أجل مطامع دنيوية اريد ان اصيبها

- هل خروجي فقط للأجر والبركة والقربى

- هل كان فقط مشاركة للجموع الغفيرة في مسيرة الاربعين السنوية العظيمة التي تأتي لها الحشود المليونية من جميع أصقاع العالم

- ام لرؤية تلك المواكب التي تقدم الزاد والرقاد لتلك الاعداد المهوله من البشر التي تصل الملايين مجاناً تقرباً لله تعالى وكم يحتاج ذلك إلى أموال كثيرة وجهود متظافرة وترتيبات منظمة وميزانية قد تنوء بها حكومات بعض الدول بل وتعجز عن توفير بعض منها والتي تنفق كل عام دون ان يعرف حجهما بالضبط بل تزداد عام بعد عام.

- ام ان النفس ستصدق ميثاقها مع الحسين وهو السير على خطاه وأهدافه بأن:

  1.   لا اكون متكبر او متجبر او متغطرس ولا ظالما ولا مفسدا
  2.   أطلب الإصلاح في امة النبي محمد ﷺ
  3.  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
  4.   الثبات على الاهداف والتمسك بها حتى النهاية.

وبعد فترة بقيت فيها حائرا أصارع نفسي لأجد الجواب على كل تلك التساؤلات، هو الشوق الحسيني الذي يحدو بي لأتمثل في نفسي أهدافه وأسقطها على واقع مسيري وخطواتي قربة لله ولآل محمد ﷺ مستحضراً كلام الإمام السجاد «وجهتي مولاي وراحتلي قدماي وزادي تقواي»

لعلها تكون خير ما أقدمه بين يدي عند وصولي الي قبره الشريف وهو ان اطبق بعض من تلك الاهداف في طريقي إليه وحرصت حينها على التالي:

ا - ان استغل مسيري وأكرسه للطاعة والعبادة والتفكر والتأمل.

ب - حرصت أن تكون صلواتي كلها في حينها وان تكون جماعة قدر الإمكان

ج - أن آمر بالمعروف عندما تستدعي الحاجة لذلك حيث لاحظت أن بعض الكودار في المواكب ينقصون حظهم من شرف الخدمة بالتهاون في اداء الصلاة فحرصت تنبيههم لذلك

د - الحرص على نظافة الطريق وخدمة المؤمنين

ه - تذكر اخواني من المؤمنين ولا سيما من رحلوا عنا وإشراكهم في الدعاء والزيارة

وعند مسيري وجدت نفسي بين سفرتين ممتدتين على جانبي الطريق من المواكب وهدفي أمامي في نهاية المشوار تخيلت حينها أن هاتين السفرتين هما:

ا - ما املك من الدنيا فاخذا منهما حاجتي «كبلغة» وزاد في الطريق وما زاد عنهما فهو لوارث او حارث «ما لك من مالك إلا ما اكلت او شربت وما عداه فأنت خازن فيه لمن بعدك»

2 - او كأنهما مغريات الدنيا وزبرجها يحفان بالمؤمن عن اليمين والشمال وكلما زاد تعلقه بها ولهث ورائها أبطأ به المسير عن نيل حظه ونصيبه الاوفى من الآخرة «من نظرا إليها أعمته ومن بصر بها بصرته»

ومع المشي المتواصل لمسافات طويلة حتى اليوم الثاني بدت قدماي متورمتان والتهبت بعض المناطق وبدأ الالم يدب في مفاصلي حينها بت أسائل نفسي هل لازلت قادراً على قطع ما تبقى من المسافة حيث لم اقطع سوى ربع او ثلث المسافة فتذكرت قول الإمام علي «ما ضعف بدن عما قويت عليه النية» ولحسن الحظ كنت قد حملت معي بعض الأدوية والتي توقعت احتياجها في مسيرتي.

كانت رغبتي وإصراري على قطع المسافة كاملة أقوى من الإحساس بالألم والضعف حتى عندما خارت قواي وقصرت خطاي فأصبحت بين الجموع ابطأهم واخر صفهم ففي بداية الأمر كنت اقطع مئة عمود ثم استريح قليلا ثم خمسين ثم عشرة فقط واستريح لكن همتي وعزمي ما زالا مرتفعان وإن خذلتني قواي سأواصل المسير طالما هناك وقت قبل حلول يوم المناسبة والغريب في الأمر اني قطعت في اليومين الأولين ثلث المسافة بينما في اليوم الثالث قطعت باقي الثلثين يقال ان الجياد حين تقرتب من نهاية المضمار تضاعف قوتها لتنال شرف السبق

وكذلك يشتد العزم وتسمو الروح ويرفرف القلب وتشحذ الهمم وتتمالك القوى ويقوى البدن ويتم القفز على الجراح او تناسيها عند الاقتراب من المحبوب لما لذلك من لذة لا توصف تفوق كل الم وخصوصا عندما لاحت لنا قبته الشريفة، ومنها نتعلم أنه كلما كان الهدف مشروع، سامي وواضح والنية صادقة والعزيمة قوية كلما تحمل صاحبه كل الصعاب للوصول اليه واعانه في ذلك عليه البدن بتوفير الموارد اللازمة، كنت اكتفي بساعات قليلة من النوم واقوم نشطا مسرعا يخالط ذلك الشعور بالمتعة والراحة النفسية رغم التعب البدني.

فما ان حلت صلاة الظهر من اليوم الثالث إلا وانا في وسط جنة الحسين كربلاء وبتلك الصلاة ختمت رحلة المسير اليه نسأل الله القبول والثبات على ولايتهم حيث الصراط المستقيم بلغنا وإياكم وجميع المؤمنين البلاغ اعواما واعوام ونحن في احسن حال واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.