السرعة القاتلة
من الأشياءِ التي لا تستطيع أن تستردها أو تسيطرَ على نتائج تحررها من يدكَ الكلمة والبارود وهما في سباقٍ مستعرٍ لتدميرِ ما أمكن من القوى الاجتماعيةِ والبنية الحضاريةِ للدولِ التي ليس لديها حماية من كليهما أو أحدهما.
تقتربُ سرعةُ البارودِ البدائي من سرعةِ الكلمةِ في الانطلاقِ وتمتازُ الكلمةُ بسهولةِ الامتلاكِ والاشتعالِ فهي ملكٌ لكلِّ شخصٍ في أي وقتٍ وبإمكانه أن يطلقها متى شاء، بل بإمكانه أن يجعلها فاعلةً على مدارِ السنينِ بعد رحيله في القوةِ والتأثير، ما عليه سوى أن يكتبها ليقرأها ويحولها من يأتي بعده فعلاً.
أخذت الكلمةُ والبارودُ في التمردِ والقدرةِ التدميرية والبناء حتى وصلا إلى ما وصلا إليه في العصرِ الحديث من تخريبِ دولٍ ومجتمعاتٍ عملت على بناءِ نفسها وحضارتها مئاتِ السنين. كان انتقالُ الكلمةِ والفكرِ في القديم صعبًا ولكن مع التسارع التقني، ساهم الإعلامُ ووسائلُ الاتصالِ والنشرِ الرخيص لتصبح سرعةُ انتقال الكلمة والفكر أكبر من انتقالِ أي كمٍّ فيزيائي آخر. لم يتأخر البارودُ عن هذا السباقِ فزادَ من سرعته وتشكلَ وأصبحَ والدَ كلِّ سلاح فتاك.
لا يستغني البشرُ عن البارود في تفجيرِ الأرضِ كي تجري ينابيعُ الماءِ والنفطِ والغاز وفي استخراجِ المعادنِ وبناء السدود في أماكنَ عاتية على البشر بدون تلك القوةِ التدميرية البناءة. كذلك استخدمته الجيوشُ قديمًا في دكِّ الحصونِ ورمي العدو والانتصار في الحروب ولا غِنًا عن الكلمةِ التي تساهم في تأسيس الفكر والحضارة وإحياء الإنسانية. يكمن الخطرُ في السباقِ المحموم بينهما على الدوامِ في النزاعاتِ والذي عادةً ما يبتدأ بأن تنطلق الكلمةُ وبعدها يسبقُ البارودُ الكلمةَ على الدوام بما يملك من قدرةٍ على تدميرِ ما تبنيه المجتمعاتُ والحضاراتُ من إنجازاتٍ لا يمكن إعادتها بالكلمة وحدها.
أبدع العربُ والمسلمونَ في استخدامِ الكلمةِ والبارود حيث كان لهم قصبُ السبق في كثيرٍ من العلومِ التي أسست للعلوم الحديثة وكانوا من أوائلِ من استعمل البارودَ في الحربِ والمقاومة. هجر العربُ والمسلمون المفيد من الكلمةِ وطورها غيرهم ليخرج الكثير من الأبحاث والكتب وانتقل الشغف بالبارود ومنتجاته للغرب حيث أتقنها وأبدعها وأعادها للشرق في منتجاته الاقتصادية ليتصارع الشرق ويهدم ما بقي له من حضارة. يبكي الشرق قتلاه التي لا يستطيع عدها ويحصي خسائره المادية التي لا يقدر على معرفتها وكأنما نتائج العد هو القوة الدافعة والمغذية للغرب لتطوير البارود والكلمة.
إلى أن يعودَ كلٌّ من الكلمةِ والبارودِ إلى مكانهما الطبيعي في العلمِ والمعرفةِ والبناءِ ويتحدَ كلٌّ منهما في حماية منجزاتِ الآخر ويسهما في بناءٍ إنسانيٍ متين، يبقى الشرقُ الضعيفُ مستسلماً لطعم العلقمِ والألم ويصدر إحصائياتِ القتلى والجرحى ويرمي كنوزه ومنجزاته في حظائر الدمار بدلاً من أرقام الناتجِ من الكتبِ والابحاثِ والابتكاراتِ التي يحتكرها الغرب ومعها يحتكر الكأسَ الملأى بالعسل.
وضع الربُّ قوىً إنسانية تحتاج إلى تكاملٍ بدلاً من التفاضلِ الذي لا بد من العمل عليها للعالم أجمع لاستخراج أسرار وخفايا الحياة والمحبة بدلاً من الصراع الذي يستحيل معه الجناح المكسور إلى غريزةٍ حيوانيةٍ جامحةٍ لا تستثني أحداً.
يبدو أن الغربَ والشرقَ ملتزمانِ بالجغرافيا ويبقى التكاملُ حلمٌ ليسَ في دائرةِ الممكن الحدوث في هذه الحقبة من التاريخ، لعله يحصلُ في حلقةٍ أخرى!