ثقافة الصمت
سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنِ الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟
فَقَالَ : "لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آفَاتُ، فَإِذَا سَلِمَا مِنَ الْآفَاتِ فَالْكَلَامُ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ؛.
قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا بْنَ رَسوُلِ اللهِ؟
فَقَالَ:؛ لِأَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلٍ - مَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْصِيَاءَ بِالسُّكُوتِ، إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بِالْكَلَامِ، وَلَا اسْتُحِقَّتِ الْجَنَّةُ بِالسُّكُوتِ، وَلَا اسْتُوجِبَتْ وَلَايَةُ اللهِ بِالسُّكُوتِ، وَلَا وُقِيَتِ النَّارُ بِالسُّكُوتِ، وَلَا تُجُنِّبَ سَخَطُ اللهِ بِالسُّكُوتِ، إِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْكَلَامِ، مَا كُنْتُ لِأَعْدِلَ الْقَمَرَ بِالشَّمْسِ، إِنَّكَ لَتَصِفُ فَضْلَ السُّكُوتِ بِالْكَلَامِ، وَلَسْتَ تَصِفُ فَضْلَ الْكَلَامِ بِالسُّكُوتِ؛.
ليس هناك عضو من أعضاء الإنسان يحمل الخطورة في جانبيه الإيجابي والسلبي كاللسان؛ لأننا عندما ندرس دور أي عضو من هذه الأعضاء فإننا نجد أن مهمته في الخير أو في الشر مهمة محدودة بحدود معينة في العناوين العامة للخير والشر، ولكن اللسان هو الذي يدير حركة الحياة في مواقعها كلها.
فباللسان ومن خلال ما يصدر منه يمكن أن تعمّر مجتمعك ويمكن أن تخربه، ويمكن أن تفتح عقل الإنسان على الحق ويمكن أن تفتحه على الباطل، ويمكن أن تثير فيه الفتنة ويمكن أن تحقق به الوحدة، ولذلك نجد أن العناوين الاجتماعية والفردية في البعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني التي تتصل بمهمة اللسان ودوره تشمل حركة الإنسان في الواقع كله.
ولذا قال الإمام زين العابدين في حق اللسان: ”وَأَمَّا حَقُّ اللِّسَانِ: فَإِكْرَامُهُ عَنِ الْخَنَا، وَتَعْوِيدُهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَدَبِ، وَإِجْمَامُهُ إِلَّا لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنْفَعَةِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، وإعفائه عَنِ الْفُضُولِ الشَّنِعَةِ، الْقَلِيلَةِ الْفَائِدَةِ، الَّتِي لَا يُؤْمَنُ ضَرَرُهَا مَعَ قِلَّةِ عَائِدَتِهَا، وَيَعُدُّ شَاهِدِ الْعَقْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَتَزَيُّنُ الْعَاقِلِ بِعَقْلِهِ حُسْنُ سِيرَتِهِ فِي لِسَانِهِ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ“.
فالإمام يؤكد على:
1. إكرام اللسان عن الفحشاء؛ لأنها مما توجب سقوط الإنسان ومهانته.
2. تعويد اللسان على مقالة الخير، وما ينفع الناس ولا يضرهم.
3. حمل اللسان على التلفظ بالأدب، والكلم الطيب، الذي يرفع إلى الله تعالى.
4. اجمام اللسان - أي حبسه - وسكوته إلا لموضع الحاجة من الأمور الدينية أو الدنيوية.
5. اعفاؤه ومنعه من الخوض في فضول القول الذي لا يعود عليه ولا على الناس بخير.
ومن المهم أن نعلم أنّ كثيراً من مصير الآخرة مرتبط بحركة اللسان في الدنيا.
جاء في السيرة النبوية أنَّ معاذ بن جبل طلب وصيةً من الرسول ﷺ، فأمره ﷺ أن يحفظ لسانه، فراجعه في ذلك، فقال ﷺ: ”احفظْ لِسانَكَ، ثَكِلَتكَ أمُّكَ مُعاذُ، وهَلْ يكُبُّ النّاسَ علَى وجُوهِهِمْ إلاَّ أَلسِنَتُهُمْ“.
وفي بعض النصوص: ”هَلْ يُكِبُّ الناسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ في النَّارِ إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ“.
ولذا نرى أنّ الإمام علي بن الحسين يعطينا صورة تقريبية لخطورة اللسان من خلال موقف الأعضاء منه، فيقول، كما في الرواية الصحيحة: ”إِنَّ لِسَانَ ابْنِ آدَمَ يُشْرِفُ عَلَى جَمِيعِ جَوَارِحِه كُلَّ صَبَاحٍ فَيَقُولُ: كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: بِخَيْرٍ إِنْ تَرَكْتَنَا، ويَقُولُونَ: اللهَ اللهَ فِينَا، ويُنَاشِدُونَه، ويَقُولُونَ: إِنَّمَا نُثَابُ ونُعَاقَبُ بِكَ“.. أيها اللسان إنك إذا تركتنا ولم تأتِ بكلام يسخط الله، أو بكلمات تتعبنا وتهدد مصيرنا فنحن بخير ونجاة لأنّ الكلمة قد تقطع اليد وتفقأ العين وقد تقتل الإنسان تماماً. فأنت - أيها اللسان - سرّ الثواب إن أطلقت الكلمات التي يحبها الله، وأنت سرّ العقاب إن أطلقت الكلمات التي لا يحبّها الله.
وكان الإمام جعفر الصادق يحذّر أصحابه من الكلمات غير المسؤولة التي قد تنشر المخالف الصريح، لأنّ في ذلك التورط في مشاكل كثيرة تهدد المسيرة الصالحة لشيعتهم؛ لأنّ بعض الناس قد يتكلمون بالكلمة التي تدخل المجتمع في فتنة أو تدخله في حرب...
يقول أحد أصحاب الإمام الصادق وهو أبو علي الجوّاني: شَهِدْتُ أَبَا عَبْدِ الله ، وهُوَ يَقُولُ لِمَوْلًى لَه يُقَالُ لَه سَالِمٌ ووَضَعَ يَدَه عَلَى شَفَتَيْه، وقَالَ: ”يَا سَالِمُ احْفَظْ لِسَانَكَ تَسْلَمْ، ولَا تَحْمِلِ النَّاسَ عَلَى رِقَابِنَا“..
وفي صحيحة أبي حمزة، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ «الباقر» يَقُولُ: ”إِنَّمَا شِيعَتُنَا الْخُرْسُ“.
وجاء في موثقة عثمان بن عيسى قال: حَضَرْتُ أَبَا الْحَسَنِ - صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْه - وقَالَ لَه رَجُلٌ: أَوْصِنِي، فَقَالَ لَه: ”احْفَظْ لِسَانَكَ تُعَزَّ، ولَا تُمَكِّنِ النَّاسَ مِنْ قِيَادِكَ فَتُذِلَّ رَقَبَتَكَ“.
نعم، عندما تعيش في مجتمع فإنّ عليك في كلماتك كلّها أن تدرس النتائج الإيجابية والسلبية، وعلينا أن نتحمل مسؤولية ما ننتمي إليه ومن ننتمي إليه، فلا نحرك كلماتنا في هوى أنفسنا أو في انفعالاتنا أو في حماسنا، بل لا بد أن نحرك الكلمات في تخطيط عقولنا؛ لأنّ العقل هو الذي يحدد للكلمة المصلحة والمفسدة والحق والباطل والخير والشر.
وجاء في صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا : ”مِنْ عَلَامَاتِ الْفِقْه: الْحِلْمُ والْعِلْمُ والصَّمْتُ؛ إِنَّ الصَّمْتَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْحِكْمَةِ، إِنَّ الصَّمْتَ يَكْسِبُ الْمَحَبَّةَ، إِنَّه دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ“.
فالإنسان الذي يعيش عصره وهو لا يفهمه هو إنسان يعيش العمى العقلي والعمى الروحي والعمى الحركي في حياته.
ولعلّ مشكلة الكثير من الذين يظهرون على القنوات الفضائية الدينية، أنهم يعيشون خارج عصرهم، ولا يدرسون الواقع الذي يعيشه مجتمعهم الآن.
فعلينا أن نركز على تهذيب حياتنا من خلال تهذيب اللسان، ومن أهم نقاط تهذيب اللسان.
1 - مراقبة أعضاء الجسد.. بأن يكون الإنسان واعياً لحركة جسمه مما تقوده إليه نفسه، لأنّ ما يحرك الجسم هي النفس، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾، ما يفرض علينا أن نراقب أنفسنا ونضغط على مواقع جسدنا.
2 - حركة اللسان بين الإثارة والحكمة.
ولا بد من التمييز بين أسلوب الإثارة والتشهير والتجريح، الذي يستثير الغرائز والأحقاد، وبين أسلوب تبيان الحقيقة من خلال الحكمة والموعظة الحسنة والحوار المفتوح، وهكذا في الأنواع الأخرى من الفتن السياسية والحزبية والفتن الاجتماعية، والذي تعتمد الكذب لإحداثها.
3 - حفظ اللسان من المعصية.
وحفظ اللسان هو أن لا تستخدم لسانك آلة لمعصية الله، بل لا بد أن يكون لسانك لسان خير وطاعة وإصلاح؛ لأنّ هذه المسألة تتصل بحياة الإنسان في نفسه وحياته مع الناس، وحياته مع الله تعالى..
4 - حسن التخاطب.. ويضرب لنا الإمام محمد الباقر مثلاً جميلاً في ذلك، فيقول: ”إنّ لله عباداً ميامين، مياسير، يعيشون ويعيش الناس في أكنافهم، وهم في عباده مثل المطر، ولله عباد ملاعين، مناكيد، يعيشون ولا يعيش الناس في أكنافهم، وهم في عباد الله مثل الجراد لا يقعون على شيء إلا أتوا عليه“. فهل تريد أن تكون كالمطر الذي ينزل ليعطي الأرض الريّ والخصب والرخاء، أو تريد أن تكون كالجراد الذي لا يترك شيئاً؟
بجملة بسيطة «اللسان مفتاح كل خير ومفتاح كل شر».. وإذا أردت أن تملك مفاتيح الخير، فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك ونقودك. فالصمت والكلام كلاهما ذوق وثقافة. والذين يتكلمون كثيراً ويسمعهم الناس يخسرون كثيراً. أما الخسارة فهي أن الذي يسمع يستفيد أكثر؛ فالقراءة مثلاً ليست إلا سكوت القارئ والاستماع للكاتب. والحضارة هي كيف يتعلم الإنسان أن يصمت.