آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

نبذة عن الفقيدة السيدة العابدة الجليلة جدتنا نجيبة المسجِّن

السيد أمين السعيدي *

في السبت من هذا الشهر الموافق للرابع عشر منه ارتحلت إلى جوار ربها وأجدادها الطاهرين وأحبتها الماضين الحاجة العلوية أم ماجد نجيبة بنت علوي المسجِّن، إحدى ماجدات القديح الفاخرات.

● وللإجلاء عن سيرتها العامرة وذِكر نبذة من مناقبها الغامرة، المتعالية عن أحوال التَّصَنُّع وصياغات التَّكَلُّف، أتكلم في هذه العُجالة مجافياً المبالَغات، موجِزاً، مختصِراً، رغم ما تكتنفه هذه المرأة الفاضلة من جليل القدر الكبير وشموخ الخصال الكثيرة؛ أتعرض لإجلاء شيءٍ من سيرتها الفريدة لِما تحمله من قدوة عظيمة ومنزلة جسيمة تستحق الاحتذاء لا لمجرد عواطف؛ فهذه المرأة المثالية كما يعرفها كل من خالطها وعاينها كانت نفحة من النفحات العملية للدِّين وخُلُق وشهامة وشموخ جدها النبي الكريم وأهل بيته الطيبين الطاهرين عليه وعليهم الصلاة والسلام؛ حيث كانت شديدة التواضع كريمة الطبع سخيّة اليمين، ومن العابدات القانتات مما يَقلُّ نظيره؛

فمن عبادتها

مواظبتها الشديدة على صلاة الليل إلى آخر لحظات عمرها، بل وإصرارها على أدائها في أفضل وقتها، كما كانت تلتزم الصلوات الواجبة في حينها دون أي إبطاء، فلم يكن يشغلها شاغلٌ حين حلول وقتها كاشتغالها بأدائها في أول الوقتِ شوقاً وهياماً واستعداداً يمتلئ بالنشاط والحيوية كأنك ترى أمامك امرأة شابة لا عجوزاً أنهكتها السنين ودارت فيها عَجَلةُ الأيام الممتدة، ومع أنها تُعتبَر رحمها الله من المعمّرات إلا أنها بقيت تداوم ما علّقت نفسها به مِن حب الله ورَبت ذاتها عليه مِن مرْضاته سبحانه حتى وهي في أشد حالات المرض وعِتِيّ السِّن.

كما كانت هذه السيدة الصادقة الوَجِلة، تداوم الذِّكر، وكثيرة التسبيح حتى لا تكاد المسبحة تفارق يدها، كل هذا جنباً إلى جنب مواظبتها الدائمة على البقاء بوضوء وطُهر، بل ومن شدة تعلقها العملي بمَراضِ الله ومنافع تشريعه كانت فيما إذا فاتها شيء مما اعتادته من المستحبات المشهورة حَزِنَتْ وبَان ذلك جليّاً على ظاهرها وحواسها بالألم والحسرة، وقد البكاء.

وكذا لست تجد في كثرة صلاتها ما يقل في كثرة صيامها؛ حيث كانت راهبةً صوّامة، تكثر من الصيام المستحب فضلاً عن التزامها بالصوم الواجب. وهكذا كانت مع الصدقة، ومداوَمة استماعها الأدعية..

عفافها وحجابها الفريد

إن حجاب هذه السيدة في كبرها يكفي مؤونة الوقوف على حجابها في فُتوَّتها وشبابها؛ فإنها على كبر سنها كانت تَستنكِف عن أن يظهر منها شيء مباح لمن في سنها أمام الرجال الأجانب، بل وحتى أمام أولادها، وإنني شخصياً على رغم أنني حفيدها، لا أتذكر طوال حياتي رأيت منها يوماً غير وجهها بقدر ما يُغسل من الوجه في الوضوء وساعِدَيها إلى المرفقين ومَوطئ قدميها إلى الجوزتين.

صِلَتُها وأخلاقها وسخاؤها

لقد امتازت السيدة المرحومة بحبها لصلة الأرحام، وشدة أمرها ذريتها بالاجتماع ومشاركتهم بنفسها اجتماعاتهم الدائرة حولها، كما عُرِفَتْ عنايتها الفائقة بزائريها، بالدرجة التي كانت تَذكرهم إذا طال عنها غيابهم، وتبادِر بالسؤال عنهم ممن حوْلها، وربما استدعى ذلك في البعض أن تتصل بهم بنفسها للسؤال عنهم متحملةً عناء ذلك لا تَجد في عناء السؤال عنهم إلا استقراراً لها وراحة.

وأما عَطفها؛ فجاوَزَ الوصف؛ حيث امتازت رحمها الله بالحنان الفائق، حتى أصبحت ملاذاً ومزاراً لكل العائلة والأقارب والمعارف؛ فكان مَجلسها مجلس التْقاءٍ ووِصال. بل قَلّ أن تجد سيدة البيت محبوبةً مثلها لدى زوجات أولادها؛ فإنّ هذه السيدة كانت في قلوب زوجات أبنائها خفيفة ظلٍّ لطيفة التعامل وعظيمة الأدب؛ فلم يجدن فيها غير العشيرة والعِشرة الطيبة التي تكتنف عشرتها الحياة بحلوها ومُرها، معتدلةً مستقيمة، ومعلِّمة لهُنّ مُلْهِمة، وعلى هذا الخُلق الفاخر لم يَكُن حب زوجها السيد أسعد الشديد لها بأقل من حب الآخرين لها، حيث تشاهِد بوضوحٍ بارزٍ التزامها طاعته وبِرّه، والتزامه بِرّها ورضاها.

وهكذا كان التزامها دارها وعدم انشغالها بالخروج منها لغير حاجة حيث كان اشتغالها بالمهم أَوْلَى، كما أن اقتدارها على شؤون بيتها كَرَبّةٍ له، ونَفَسها الطَّيِّب في أدائها، وجُودها بما تَصنع مِن طيب الطعام على الآخرين في بيتها وخارجه بترخيصٍ من زوجها، وتربيتها أبناءها وأبناء أبنائها وأبناء زوجاتهم، كل ذلك كان يزيد في قيمتها العملية ما يَفوق أَبعاد البيان.

ومِن جَمال طبعِها الرفيع أن سلوكها يَتكلل بالاحترام لدرجة أنها رغم كبر سنها كانت تجلس لزائرها معتدلة اهتماماً به وتوقيراً له. وكانت تتمتع بشخصية فريدة وسموحة لا يعَكّرها - بما هي شخصياً - ما حوْلها من المشْكِلات والتعصب والتشويه، وبَسَماتها النابعة مِن عُمق القلب لا تفارق صفحة وجهها العامر بالمعاني الصادقة، تعيش مع كل شخص حسب شعوره وكلامه وحواره؛ فإن كان مازحاً كانت مفعمة بالمزاج والبسمة سَبّاقة لسردِ الذكريات الجميلة وبأسلوبٍ عذبٍ نزيهٍ نَضِب، وإن كان متحدثاً في العلم أنصتت مستمعة وتكلمت مفيدة ومستفيدة، وإذا جالسها من لديه علم انهالت عليه بالأسئلة تتعلم وتستفيد، وما أكثر ما كانت تتصل بمن تجد لديه العلم من أولادها تسأل مسائل في الصلاة والصيام وغيرهما لا تكل ولا تمل، وإذا حَضر عندها أحد ولم يَكُن في الكلام الدائر حولها فائدة أو ما يعنيها صمتت وأعرضت إعراضاً جميلاً مشتغلةً بالذِّكر والتسبيح أو استراحت مستلقية معرِضة. وهكذا كانت تهتم بنظافتها ومظهرها مع سنها المعَمّر.

وما أشد قناعتها وقلة مؤونتها واقتصادها وعدم تطلُّبها رغم كثرة أبنائها وذريتها، بل وكرمها البارز بصوَرِه الخاصة كان مَنقبةً تقترن بصفاتها النبيلة وسجاياها الفضيلة، فما دَخل عليها طفل إلا خرج بما يسرّه مما يحب، وما كان هنالك كبير إلا وقد مَرّ بمشاعر هذا الصغير. ولا وجدْتُها يوماً آذت جارةً لها أو عادت أحداً من الناس. ومِن جُودِها السَّخي كثرة إهدائها العبادات والأعمال والصلوات والصيام لأئمتها وأحبتها والمؤمنين والمؤمنات.

سلوكُها مع ضَرّتِها

لهذه الجنبة لذائذٌ وقِيَمٌ خاصة لا يَسعها هذا السَّرْد المختصَر العابر؛ فإنّ مِن أَقبحِ التعابير أن توصَف زوجة السيد أسعد الثانية أم سيد حسين - شريكة أم ماجد فيما بعد زواجه بأم ماجد - بأنها ضَرَّة؛ فإنّ كل من لديه أبسط اطلاع على أحوال هاتين المرأتين يبصِر بجَلاءٍ ووضوح أنهما لم تكونا أختين فحسب، بل كانتا - وبكل معنى الكلمة - فوق حد الأُخوّة؛ ففرحهما فرحٌ واحد وحزنهما حزن واحد، تتشاركان العمل والمسؤوليات وتربية الأبناء، كلٌّ تربي أبناء الأخرى، حتى أن الوالد السيد حبيب حفظه الله وهو الابن الذكر الثاني لأم ماجد لطالما كان يُصَرِّح بأن أم سيد حسين لم تَكُن أقل قدراً في قلبه ووجدانه من أمه السيدة نجيبة، وأن حبه لها وتعلقه بها يتجاوز حد الوصف، كما أن جميع أبناء أم ماجد وأحفادها كانوا ينادون شريكتها بأمنا أم سيد حسين، فهذا النداء لا شك ناتجٌ مخصوصٌ عن تربية متجذرة في النفوس على ذلك بالحد الذي لم نَكُن نَشعر بوجود فارق بين هاتين الأُمَّين في أفئدتنا، بل ولم نَكُن نَعْلَم أن أم السيد حسين هي شيء آخر بالنسبة لنا غير الأم إلا بعد أن كَبرنا ومضت من أعمارنا سنين ممتدة، لقد كانت السيدتان في علاقتهما ببعضهما تَصِلان لمستوى التنافس في الإيثار، كلٌّ منهما تؤثر على نفسها لشريكتها بصورة تذهل اللُّب وتُحَيِّر الفهم، حتى أن الغيرة كانت تَتسلل قلوب الأخريات وربما سعى بعضهن للتشويش بينهما وتفرقتهما، ولكن دون أي جدوى أو أمل.

علاقتها بالعِلم والعلماء

وكيف أجد ما يَفي به التعبير عن هذا التعلق الكبير مع ما كنت أراه مِن حبها الكبير للعلماء وهو يَتفوّق في إجلاء إخلاصه عن الوصف المتواضع؟ وما تشجيعها المستديم لي على طلب العلم إلا مفردة واحدة مِن بين مفردات متكثِّرة على هذا السبيل، ولطالما كانت تتفاخر بأبيها وجلالته ووقاره وأدبه وحُسن جأشه مشيرةً للتَّمَثُّل به، كما كانت مداومة على استماع المحاضرات لدرجة أنها تهتم بادخار الكاسيتات القديمة وتستعمل المسجِّل القديم لاستماعها وتتذوق ما فيها من كلام وتَفرح بها وتُحَدِّث زائرها عما فيها. وهكذا كان التزامها بحضور مجلس القراءة الأسبوعي الخاص المنعقد في مَقَرّ إقامتها.

علاقتها الخاصة بالنبي والأئمة

ومن أبرز الأمور التي كانت تمتاز بها، وبطابعٍ فريدٍ خاص، شدة تَعلُّقها بأهل البيت عليهم الصلاة والسلام ومناسباتهم وزيارتهم، وسرعة عَبْرَتها بمجرد أن تسمع مصيبة من مصائبهم، فلا تتمالك مشاعرها ولا تعِينها قواها، وقد تَصل أحياناً لحد الإغماء، وهكذا شدة تَعلقها بكل ما يتصل بهم كتربتهم الشريفة وغيرها، كما أن لها ذكرها الخاص جداً لإمام الزمان سلام الله عليه على وجه الخصوص.

ولهذه السيدة قصة مع التلفاز

من السيرة العملية العازمة والواضحة لهذه السيدة، أنها ما كانت تشاهد التلفاز طوال عمرها، بالمستوى الذي اعتادت كل العائلة كبيرها وصغيرها، من الابن إلى الحفيد.. بمجرد أن تدخل مكاناً قد فُتح فيه التلفاز يقوم الحاضرون بإغلاقه توقيراً لها واحتراماً لا عن قَسْرٍ أو جبر، وربما بعد إغلاقه وضعوا عليه أيضاً قطعة قماش أو سجّادة الصلاة لتغطيته. وإذا قال لها أحد ممازحاً: أم ماجد؛ لماذا لا تُحبين التلفاز؟ لماذا لا تشاهدين؟ تجيب: تلفزيوني إن شاء الله في الجنة، تلفزيونكم ما أبغاه، يخرب الروح.

الفيوض الإلهية التي نالتها وتعميرها وعبيرها وشجاعتها

عَبَقُ رائحتها الجميل حالةٌ تَتعسر على التفسير، كما أنها مع رَباطة جأشها وشجاعتها الملائمة لعقيدتها وطبيعتها لم تَكُن تَكترِث بالموت، يخالِط قلبها وكلماتها الرغبة والرهبة، الرجاء والشوق للقاء الله وأحبائه؛ فمع رغبتها في طول العمر للتّزوُّد بالذّخر الصالح والبقاء بين أبنائها وإدراك ظهور مولاها الخَلَف الحُجة أرواحنا فداه، كانت في ذات الحين مُوَطِّنة نفسها على الفراق محبة للعالَم الذي طالما كان يَقْرع خواطرها ويجتذبها بجمال الحبيب سبحانه ومَقَرّه الأعظم على أمل العودة في رجعتهم صلوات الله وسلامه عليهم والحياة في دولتهم ومعايَنة آمالهم القدسية الإلهية المباركة.

ورحلت بسلامة البصر والحواس، ولعل هذا سببه يعود لاهتمامها الشديد بصلاة الليل حتى في أشد حالات المرض وكبر السِّن الذي امتد ببركات صدقاتها وصِلَتها رحمها والتزام هذه الصَّلاة..؛ ولهذا - بفعل المواظَبة عليها - توفيت وهي بكامل قواها العقلية لم يمسسها الخَرَف، حتى بقيت تتمتع بذاكرة قوية ونشاطٍ روحيٍّ هائل.

ولما اقترب أجَلُها، وشَل حركتها بالإغماء قرابة الثلاثة أيام على خلاف عادتها، كانت وهي على سرير الفراق تَتخيل أنها تتوضأ وتتحضر لصلاة الليل.

هكذا كانت لآخر لحظات حياتها المعمورة بالعبادة والخيرات، وبكلمة موجزة: لقد كانت هذه المرأة إنسانة عظيمة عند الله قبل الناس، والعمل غَلَبَ عندها القول، فلما كانت كذلك كانت عظيمة عند من عرفها من المؤمنين العارفين بما هي عليه من العلو الكبير. نسأل الله تعالى أن يلهمنا الصبر على فراق الأحبة وأن لا يحرمنا شفاعتهم، ورحم الله من أهدى لها المباركة الفاتحة ولأموات المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.

ماجستير فقه ومعارف إسلامية وفلسفة ، مؤلِّف ومحقِّق وأستاذ حوزوي.
- موقع السيد أمين: www.anbyaa.com