كونوا أحرارا في دنياكم
نظرة المرء المتكاملة والشاملة لنفسه تعد قيمة مهمة في مسير الإنسان ورسم مستقبله ونسج علاقاته، وذلك أنه إن لم ير لنفسه وجودا ذا قيمة ومهما فلن يجد في السلوكيات الخاطئة وغير المقبولة منطقيا واجتماعيا أي حرج في فعلها، فليست هناك ثمة ملازمة عنده بين قيمة ذاته وبين تصرفاته التي قد تعلي شأنه أو تحط به في وحل اللؤم والخيانة والوقاحة، وأما من ينظر لنفسه نظرة إيجابية يوازن فيها بين منطلقات نجاحه وتكامله وبين كل ما يصدر منه من فكر أو سلوك، فإنه بالطبع سيجد ممانعة يقظة عنده تحجزه عن سقطات الكلام والسلوك الانفعالي المتهور، ولا يمكنه أبدا أن يعرض ضميره في مزاد بيع الذمم ليفعل به المتلسطون ما شاؤوا، فإن عزة نفسه وصيانتها عن الملوثات الأخلاقية تبقى قلعة صامدة في وجه التخويف والإغراء، ولذا فإن دراسة متأنية لما تختويه تلك النفوس الوضيعة ممن جعلوا الجاه والمال قبلة لأفعالهم، تنبيء بوجود هلامي لهم يميل مع المصالح الضيقة دون تحرج من ارتكاب الفظائع والجرائم ورسم حفر المكر والخديعة لمن يقف في وجه منافعهم، وأما كريم النفس صاحب الكرامة والحرية لن تجد الظروف الصعبة أي آلية للضغط عليه؛ ليتحول عن مبدأ الفضيلة والشرف إلى زبالة الخيانة.
النجاح الحقيقي عند من يحترم نفسه ويعلي شأنها ليس هو الوصول لأهدافه بأي شكل وبأي وسيلة مهما كان ثمن التنازلات التي يقدمها ولو على حساب مبادئه، وإنما هو العمل المثابر في مضمار الحياة سعيا وراء تكامل ذاته وإكسابها أجنحة الصفات الحميدة ليحلق عاليا في فضاء الشخصية القوية.
وأما أولئك الذين عانوا من حقارة الذات وتسافلها فقد لزموا طريق الحقارة والخسة في كل خطاهم، ولم يتورعوا يوما من كسر حاجز القيم الدينية والمنظومة الأخلاقية، بل وكانوا يتبجحون بافعال النذالة واللؤم ولا يجدون بأسا في تصرفات يندى لها جبين الإنسانية وتتأفف من مقارفتها حتى البهائم، وإن وضعوا في موقف محرج أطلقوا ألسنة الكذب والتبريرات الواهية، ولبسوا أقنعة النفاق والتلون.
ولذا فإن عزيز النفس يمكن الوثوق من كلمته وعهده فهو صاحب مصداقية، ويرى في مواقفه والثبات عليها ميثاق شرف لا يمزقه أبدا مهما كانت الظروف، ولا يدخل في مناورات المكر وتوزيع الأدوار والأقنعة بحسب المصالح، وأما الحقراء فإنهم مع أول منعطف يمسحون أي اتفاق يبرمونه بل ويبصقون عليه، ولا يمكنهم أن يلتموا بأي موقف يتعارض مع مصالحهم، ولذا لا يؤمن الغدر والشر في أي لحظة منهم فهم لا يرعون أي قيم أبدا أو معاهدة مع أحد.
كما أن كريم النفس وعزيزها يعد حصانة اجتماعية وأخلاقية أمام الظواهر والسلوكيات الذميمة، فلا يمكنه التهاون أو التقصير في وجه انتشار الموبقات ومقارفة المعاصي، وأما الأذلاء فإن همهم الأكبر مصالحهم ولو كان ذلك على حساب تمييع المجتمع وإدخاله في دهاليز الفساد والفجور، فهو لا يمتلك مروءة أو غيرة تحركه نحو اتخاذ موقف معارض أبدا.
كما أن الأحراء الأعزاء يزنون علاقاتهم بالآخرين وفق مبدأ الاحترام المتبادل والمحافظة على ثقافة الحقوق، ويضع أمام إهانة الآخرين أو الاعتداء على حقوقهم المعنوية أو المادية خطا أحمر لا يتجاوزه، وإن زل في يوم ما فإنه لا يتحرج من الاعتذار وطلب المسامحة.