آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 8:37 م

ملة إبراهيم - الحلقة الثامنة - أبناء العهد

حلمي العلق

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة المؤمنون ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ «*» فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[1] ، الاعتقاد السائد في زمن النبي محمد ﷺ أن الرسل الذين سبقوا كانوا يمثلون أئمة مختلفين لأمم مختلفة عن بعضها البعض، والآية الشريفة تنقض هذا الاعتقاد الذي تسبب في تفريق الدين وتؤكد الحقيقة أن أمة الرسل أمة واحدة وليست عدة أمم كما تتصورون، ذلك لأن مرجعيتها ملة واحدة. فإذا كان الأصل واحداً وجب أن تكونوا على ملة واحدة وعلى شرع واحد. جاءت اليهودية ببعثة نبي الله موسى ، جاءت النصرانية ببعثة نبي الله عيسى ، وكلاهما دعا للملة نفسها التي جاء بها أبوهما وإمام الجميع إبراهيم .

لأبناء إبراهيم مع الدين حكاية، بدايتها منذ العهد الأول ومنذ اللحظة الأولى التي عهد الله فيها لإبراهيم بالإمامة، يقول تعالى ﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[2] ، ومن هنا بدأت الحكاية، حين سعى هذا الإمام بكل عزيمة لإعادة ملامح الدين إلى الحياة مرة أخرى، فكان أن ابتلاه الله بكلمات، تلك الكلمات امتحنت ثباته على طلب الدين والسير على نهجه، فأخذت منه ما أخذت من الصبر حتى أتمها خلال مدة زمنية ليست بالقصيرة، فكان ساعياً في أمر الله، ولا يُؤمر بأمر حتى يسارع في تنفيذه بلا تراجع، فاستحق بذلك السعي وذلك التأسيس أن يكون إماماً للناس عبر العصور. وحين العهد طلب إبراهيم الخليل من الرب الرحيم أن تكون الإمامة من بعده في ذريته «ومن ذريتي»؟ حتى يضمن للدين ديمومته عبر العصور، فاستجاب الله له ذلك باستثناء ”لا ينال عهدي الظالمين“.

الإمامة هي ركيزة من ركائز الملة الثلاث، وكمال الملة ببقية عناصرها وهي البيت والكتاب، فلا إمامة من دون قبلة واتجاه، ولا إمامة من دون كتاب رباني يحمل أوامر الله وشرائعه، وأن يعهد الله سبحانه وتعالى الإمامة لأحد فلابد وأن يكون معترفاً بعناصر الملة المكانية والدستورية أولاً، فلا يظلم بتبديل تلك الأساسيات من أجل أن يؤتيه الله الكتاب إيتاء معرفة ودراية وكشف للحقائق، فإن أوتي الكتاب ثم بلغ بعزيمته عزيمة المتحرك المتحمل للمسؤولية بلغ بذلك مرتبة الإمامة لقيادة التغيير، فالإمامة تعهد لمن يكون حاملاً لكلمات الله متحملاً مسؤولية تبليغها للناس، وعلى هذا الأساس أُبرم العهد بين إبراهيم وربه، على أن يتعهد الأبناء بعدم الظلم، فيعهد الله سبحانه وتعالى لهم الكتاب بإيتائه لهم، ليحملوه نوراً يستضاء به عبر الأجيال ولكافة الناس، وهذا ما حدا بنبي الله إبراهيم بأن يؤكد على أبنائه حين الموت ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[3] . آية ”لا ينال عهدي الظالمين“ إذاً تتحدث عن مشروع كبير طويل الأمد يمتد إلى آلاف السنين، مشروع يضمن بقاء الدين بجميع ملامحه الحقيقية في عهدة أبناء إبراهيم حفظاً ورعاية وتطبيقاً، مشروع يحفظ العنصر المكاني وهو الكعبة كقبلة وشعار بيّن لله مشهور بين الناس. وببقاء تلك العناصر تكون الحجة قد اكتملت، والطريق إلى الله اتضح لكل سالك يبحث عن الحقيقة، ليجدها ماثلة أمامه هاهنا.

لقد كانت نظرة نبي الله إبراهيم تتجاوز الأفق، وحلمه يتجاوز الزمان، فكان يدعو الله ببعثة رسول من ولده من بعده يحمل شعلة الإيمان للناس يوقد جذوتها بصلاته من وحي السماء لا يستضيء بغيرها، شعلة وقادة لا تطفئها أفواه المشركين. وكما وطن نفسه لخدمة هذا الهدف، دعا الله أن يأتي من صلبه من يحمل اسمه وينتسب إليه نهجاً وعقيدة. ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «*» رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «*» رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[4] 

هكذا بدأت الإمامة بجهاد الإمام الأول ورافع قواعد البيت ومؤسس الملة نبي الله ابراهيم ، ثم تواصلت على يد أبنائه من بعده. النبي الإمام إبراهيم هو الذي أسس الملة بعد ضياعها بسبب ظلم الناس في تلك الأزمنة، وهو من أذن في الناس، وهو الذي وصى أبناءه من بعده بالتمسك بالملة وهو الذي جعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم إليه يرجعون.

[1]  سورة المؤمنون «52»، «53».

[2]  سورة البقرة «124»

[3]  سورة البقرة «127» - «129»

[4]  سورة البقرة «130» - «132»