آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 2:13 م

لون الخيط

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ.

من النعمِ الروحية الأخروية التي تشكلُ أصولَ النعم للدنيا وتجعلها جنّة صغيرةً في حياتنا شبيهة بالجنّة الكبيرة لو توفر المطلوب هي صفاء ونقاء العاطفة الخفية للصديق فقد يبوح الصديق لصديقه بما لا يبوح به للأقربين من أهله ولا حتى محدثات الليل من النساء.

قصَّ عليَّ صديقي الغني بعضَ ما لاقى في الصغرِ فبعث في نفسي الرجاءَ بانَّ حرفاً في كلمة ينقلها من الألم إلى الأمل ولا يكتفي بالكلمة بل يأخذ شعورَ الانسانِ بمن يحملُ حملاً ثقيلاً إلى من يحلمُ حلماً جميلاً. حادثة في العاشرة كادت أن تجعلهُ يعيش في المنخفضاتِ ولكن ذلك لم يحدث بل جعلت منه عنصراً فاعلاً  وطوداً شامخاً.

ولدَ صديقي في عائلةٍ كبيرة لا تجد كفافَ يومها، كما كان كثيرٌ من الناس حينها، وأدخلَ المدرسةَ في السابعة من عمره. أحب المدرسة وكان يفوق الكلَّ ولكن حاله لم تكن خافيةً مهما أراد أن يخفيها. لا يهم الرحلات التي لم يذهب إليها والفسحةَ التي لم يشارك فيها الطلاب حتى لا ينكشفَ أمره بأنه لا يستطيع شراء شيء يأكله مع حاجته إليه. كان يختفي تحت الطاولة عندما يسأل المدير الطلاب جهرةً، بكثيرٍ من الغباء، عمن أراد أن يكتبَ إسمه فقيراً حتى تأتيه الصدقة. كل ذلك ليس مهماً، إلا المظهر فلا يمكن حضور الصف بدون لباس.

لم يكن لديه ما يلبس ذاتَ يوم واحتار أهلُ بيته من أين يأتون له بثوب. دلتهم إحدى البنات إلى شخصٍ في العائلة ربما كان عنده من اللباس شيء يعطيه إياه. فرح بالثوب القادم أيَّما فرح حتى لا يتغيبَ عن المدرسة أو يكون حبيس البيت. كان في الثوب عيوبٌ كثيرة ولكن الأسوأ أن الخيطَ من غير لونِ القماش. لم يخطر له ببال أن ذلكَ سوف يكون مشكلةً ولم يكن لديه خيار الرفض والناس لن يلقوا له بالاً، فحالهم ليس أفضل بكثير. لبس الثوبَ وحدث شيءٌ أزعجه وآلامه وحرارة دموعه لم تزل تقرح أجفان عينيه كلما تذكرالحادثةَ قبل خمسينَ سنة.

حضرَ مجلساً عاماً في بلده ولصغره تطوع بتقديم القهوةِ للكبار في العمر وليس في القيم والأخلاق بالضرورة. ناداه واحدٌ من الوجهاء والأغنياء يا ولد، يا ولد. فرح صديقي لأنَّ غنياً كبيراً ناداه فلعله أرادَ أن يعطيه القهوةَ قبل غيره أو في أحسنِ الحالِ يعطف عليه بكلمةٍ أو مالٍ ولكن ليس شيءٌ من هذا. إنه خيطُ الثوب. قال له الغني ضاحكاً والجميع يسمع ويرى ”يا ولد من خاط لك الثوب؟“.   سؤال أصابه في مقتل حتى تمنى مع ضحكات الحضورِ أن الأرضَ تنشق ويذهبَ إلى أعماقها ولا يعود.

كبرَ الصديقُ ولون الخيط محفورٌ مثل الخندق في ذاكرته ولا بد أن يكون الكبير قد مات. صار ألمُ صاحبي أملاً ولديه من الثياب والملابس الكثير المتناسق اللون والجيد في النوع والمال الذي يكفيه ويزيد ولم ينسى غيره ممن قد لا يكون لديه خيط يناسب الثوب.

ليست هذه قصةً من خيالي، فأينما ذهبت لا بد أنك سترى خيطاً لا يتناسب مع لون القماش. اجعل لصاحبه ذكرى جميلة وشباكاً من الراحة وتأكد أنه يملك الأفضل قبل أن تسأله عمن خاطه...

مستشار أعلى هندسة بترول