من خلفِ الزجاج
سألتُ صاحبي ليلةَ أمسٍ عما يرى في اقتصادِ القادمِ من الأيام. صاحبي، يقولُ الناسُ كَيْتَ وكَيْتَ وانتَ لكَ باعٌ في الأموالِ وأتاكَ اللهُ سعةً في الرزقِ فماذا تستشرف في القادمِ دونَ الرملِ والحصى والكهانة؟
ثقيلةٌ أم خفيفة؟ تعني الحقيقة؟ لا، أعني القهوةَ التي أدفعُ ثمنها كلَّ مرة. أتذكر صاحبنا علي… بلى أذكرهُ. قالَ: كان عليٌّ أكبر مني ومنك بسنتين ولم تكن حالتهُ المادية على ما يشتهي ولكن أعاضَ عنها بالطرفةِ والحكمةِ والعملِ الجاد.
أذكرُ لكَ ثلاثةَ أشياءٍ مع علي والجوابُ في الثالثة. كَتَبَ عليٌّ على جدارِ المقبرةِ كلمتين بقيت سنوات لم يجرؤ أحدٌ على مسحها وهي ”أتحداكْ ما تموت“، هكذا كتبها، عبارةٌ لم ولن تخطىء أبداً. والثانيةَ عندما اجتزنا امتحانَ السنةِ المتوسطة لم يكن لديه سيارة أو دراجة والمدرسة بعيدة، لم تعوزه الحيلة حيث كان حمارُ والده والعربة الخيار المتوفر. كان منظرهُ مضحكاً كلما تمرُّ بي الذكريات. صبيٌّ صغير وحمارٌ وعربة ومدرسونَ في الساحةِ والطلابُ يضحكون.
الثالثةُ وفيها الجواب: دخل أستاذ إبراهيم، المصري الذي كانَ يجمعُ ساعاتِ الرولكس، والذي اشترى منكَ واحدةً بمبلغ ثلاثمائة وخمسين ريالاً، الصفَّ ذاتَ يوم وكان عليٌّ يخط الجملةَ التاليةَ على اللوحِ الخشبي ”أنا أحب السندويش بالجبن وبنات البتر“ عبارةٌ مكسورةٌ كما هو حالُ عليٍّ قبلَ خمسٌ وأربعونَ سنة. نظر إليه أستاذ إبراهيم وقالَ ”يا ابني انت تراها في الإزار“ يقصد انت يا علي لا ترى الجبنَ والفولَ السوداني إلا في الزجاجِ والاسواق ومنظرك لا يدلُّ على غير ذلك، اجلس.
نعم، وماذا يعني؟ قال: ذهبَ عليٌّ في بعثةٍ مع سلاحِ البحرية وتخرجَ من أفضلِ الجامعاتِ في أمريكا وعملَ في وظيفةٍ واشترىَ البيتَ والمبردة وخابَ ظنُّ أستاذ إبراهيم. تقاعد عليٌّ وهو الانَ بخير. قلتُ الحمدُ لله، لِمَ الألمُ في حديثك؟ لا تستعجل قالَ: كان ذاك في منحنى الصعود وشاركتَ بعضَ الغُنم وأنت في منحنى الهبوط عليك كلُّ الغُرم. مات زمنُ العطاءِ والهباتِ وجاء زمنُ الأخذِ بكل الأسماءِ والصفات. أحضر العرضَ إن كنتَ لازلتَ تملكُ ثمنَ التذكرة.
ما ترى يا صاحبي؟ قالَ: هناكَ خدعةٌ يعتمدها من يضع الأكلَ في الزجاجة التي كان عليٌّ يتمناها وهي أنك لا تستطيع استخراجَ حوالي الاثنين من المائةِ من محتواها إلا بصعوبة، ربما لتشتريَ زجاجةً غيرها. فكر كيف تستخرج ما بقي في الزجاجة.
لا يكفي، إذاً عليك بوصفةِ الصدّيقِ يوسف ”دعهُ في سُنبلهِ إلا قليلاً“ وعلِّم ذلكَ إلى أهلكَ وعيالك. كن خادمَ نفسك واسعى لتحقيقِ امانيك، تمتلىءُ الأجران. لقد أخفى الربُّ في أنتم ونحنُ الكثيرَ وأقلَّ منها في أنا وأنتَ.
أجل، سيدي. أنا لن أخورَ أو أوهن لا سَمَحَ الله، بعد أن وهبتني مفاتيحَ ما تُحسن.
تصبحونَ على خير