آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 1:55 م

على السِّيف

المهندس هلال حسن الوحيد *

طالَ الليلُ وخفت الحرارةُ قليلاً. جلسنا قُبيلَ السِّيفِ نتطارح دُروسَ الحياةِ بانتظارِ أن يمنعنا بردُ الشتاء.

انتهينا أن صاحبي جمعَ من المالِ في سنواتٍ قليلةٍ مالم أستطع أن أجمعه في عمري بطوله. صاحبي هل سوفَ تتركَ كل ما جمعت لأبنائك حتى لا يرونَ الشقاءَ والحرمانَ الذي رأيته، تغير كلُّ شيء والابناء لم يعودوا أقوياء مثلَ الشجرة البرية! فكم ستترك لهم؟ سأتركُ لهم بَعضَهُ، قالَ ولكن أعطيتهم وسيلةَ جمعِ المالِ فلو تركتُ لهم كنوزَ الأرضِ بدونها سوف يضيعوها بقلةِ خبرتهم وبها لن يعدموا الحيلةَ في طلبِ الرزق.

رسمتُ لهم خطينِ متوازيين وهما قانونا التداولِ والعرفان. أخبرتهم أن قانونَ التداولِ لا يختلفُ كثيراً عن السوق فما تملكه اليومَ يكون غداً بيدِ غيرك. استدعيتُ السائق الهندي ذي الأربعة والعشرين ربيعاً والذي جاءنا قبل سنتين. أخبرتهم أن قبل عصرَ النفطِ وهبوط المال الغبيِّ على دولنا ذهب جَدهم في الثلاثيناتِ والاربعيناتِ من القرنِ الماضي إلى الهند. كان جدهم في عُمرِ نصّار السائق ولم يتزوج، لم تكن رحلته واغترابه في الهندِ فقط، ولكن عمل في البصرةِ والبحرين. لم يجمع الكثير من المال، تماماً مثل نصّار، ولكن لم يمت. لم يعرف الأبناءُ قبلَ اليومِ ما عاناه جدهم، بكوا قليلاً ثم قلت لهم جاء نصَّار وكُمارْ وكلُّ الغرباء بعد مجيءِ المالِ ولكن لابد لكلِّ قادمٍ من العودة. المالُ والناسُ يعودون فاحفظوا كرامتهم. بُكاءُ الأبرياءِ لم يكن شفقةً بجدهم الذي لم يروه ولكن خوفاً من أن تدورَ بهم الدوائرُ ويَخْطُونَ الخطواتِ ذاتِها في الرمال.

أما العرفان، فما أُعطيهم صباحَ كل يومٍ أسألهم عنهُ كلَّ مساء. أين ذهبَ ولماذا. اعترضوا على المحاسبةِ في الصغر وكان جوابي من يعطيني المالَ يسألني ومن ثم أنا أسألهم. ظنوا أن من يسألني هم الناس ولما كبروا عرفوا أن الربَّ يسألُ الجميع في بداية الطريقِ وعند كلِّ مفترق ومن لا يجيد المحاسبة يأخذ الربُّ منه ما أعطاه، ربما بين عشيةٍ وضحاها وربما أطول في زمنِ الرب.

جعلتُ خيطاً رابطاً بين القانونينِ وهو العلم. لم يكن جمعُ المالِ يشغلني عن إِعلامهم أن العلمَ والشهادةَ مثل جوازِ السفر الذي لا تستطيع السفر بدونه إلى الفضاءِ الأوسع وإن كنتَ المُواطنَ الأفضل. جمعتُ لهم كلَّ الوسائلِ وما قرأتُ وما اعتقدت أن سوقَ العمل تحتاجه وشقوا طريقهم في بحرِ الحياةِ وأنا أنظر لهم من السِّيفِ كما نحن الآن.

شكراً لك صاحبي، هل هذا يعني أن طريقَ البحرِ كان يبساً وركضوا فيه، أنا لا أعرفهم. قال: لا ليست الحياةُ هكذا في كلِّ الأحيان. اختلفَ الناسُ في الدينِ والسياسةِ والفنِّ وجميعَ شؤون الحياةِ وتقاتلوا فيهم ولكن جمعتهم رائحةُ الخبزِ، من يملك الخبزَ يملك الحياة. ربما يهم الناسَ مذهبكَ ودينك إن كنت لا تملك الذهبَ ولكن متى ما ملكته فأنتَ تعنيهم وليس شيئاً آخر.

اختصرَ صديقي نصيحته في جملةٍ واحدة وهي ”لا يكفي أن تقفَ في خط البداية لتفوز بالسباق ولكن تمرس وتدرب كلما سنحت الفرصة، أنت لا تعلم متى تنفكَّ القيود وتتساوى الفرص“. ربما لم يكن النفط سوى تابوت الحياة والغيمةِ السوداء التي بعدها يأتي المطر، لن يتوقفَ قلبُ الحياة عن النبض ولنْ يتوقفَ موجُ البحرِ عن الارتطامِ بالحجارة، يجعلها أكثرَ تكوراً وصلابةً بين قانوني التداولِ والعرفان.

أجل، شكراً سيدي.

تصبحون على خير

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
طاهرة آل سيف
[ صفوى ]: 3 / 11 / 2017م - 12:01 ص
رائع سرد مشوق وممتع وفائدة كبيرة بطرح بليغ
مستشار أعلى هندسة بترول