آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:30 ص

حين يكون العنف وسيلة تربية

ابراهيم الزاكي

تعتقد بعض الأسر بأن استخدام القسوة والترهيب والتخويف في التعامل مع الأطفال هو جزء من سلوكيات التربية اليومية، ويعُدُّونه أمراً ضرورياً لتربية أبنائهم على الأشياء الصحيحة وتقويم سلوكهم. فمن دون شدّة لن يحصلوا على التربية المناسبة، ولن يتعلموا الآداب والأخلاق الحسنة. لذا تراهم يبادرون إلى توبيخ أطفالهم قصد تأديبهم وتوجيههم والسيطرة عليهم، ويصرخون في وجوههم بأصوات عالية النبرة حين يرتكبون حماقات الصغار المعتادة، ويوجهون إليهم الكلمات الجارحة حين تكثر حركتهم ولعبهم وصراخهم، أو تزداد تصرفاتهم العفوية والتلقائية، وينتهي الأمر بضربهم في حالة العجز عن ثنيه عن إرادتهم وإيقاف تصرفاتهم المزعجة والمستفزة.

وهناك من يؤمن بأن تربية الصغار من دون شدّة تؤدي بهم إلى الانحراف وتُفسد أخلاقهم، مما يعرّض الآباء للانتقاد من قبل الآخرين، والذين سيتهمونهم بالفشل في تربية أولادهم كلما بدرت منهم تصرفات سيئة. فغالباً ما يتعرض الأطفال لأشكال من الإساءات اللفظية والجسدية من قبل آبائهم تحت ذريعة أنهم عنيدين ولا يسمعون الكلام، ولن ينفع معهم سوى الشدة والضرب لتقويم سلوكهم، أو لإجبارهم على الانضباط حين يعاندون.

غير أن هناك آخرون يرون بأن ممارسة القسوة والتسلط والعقاب التي يقوم بها الأهل في تربية أولادهم هي من الممارسات التربوية الخاطئة التي تفسد وتضر بالعملية التربوية، والتنشئة الاجتماعية السليمة، وتؤثر في سلوك الأطفال، وتضعف ثقتهم بأنفسهم. إذ يشير خبير التربية ”آرلين أيزنبيرج“ إلى أن ”بعض الآباء يضعون حول أنفسهم هالة من السيطرة التامة والحكم الطاغي، فهم يستخدمون طرقاً تسلطية ويعاقبون بشدة، وتفتقر علاقاتهم مع أطفالهم للتفاعل الإيجابي والاحترام المتبادل، فيدرك الأطفال أنفسهم بأنهم غير جديرين بالاعتبار. وأكثر الأوضاع سوءاً هو عندما يكون الأب متسلطاً مع ابنه وذا متطلبات عالية في آن واحد، لأن هذا النمط هو عكس نمط استخدام المكافآت والحوافز التي ترفع من اعتبار الذات“. [1] 

ويعترف بعض الآباء بأنهم يستخدمون العنف يومياً في تربية أبنائهم، وذلك على نهج ما اعتمده آبائهم في تربيتهم، فهم يضربون أطفالهم بانتظام من دون أن يروا في هذا السلوك ما يعيب. فتراهم يبررون ذلك بأنهم في صغرهم كانوا يتعرضون للضرب والعقاب من قبل آبائهم بشكل مستمر، وأن هذه الطريقة التي أُتبعت معهم أتت بنتيجة جيدة عليهم، وهو ما ساهم في تقويم سلوكهم وحسَّن أخلاقهم، وجعل منهم رجالاً يشعرون بالمسؤولية وتحمّل الأعباء. لذلك فهم يحاولون إعادة هذه الطريقة في التربية مع أطفالهم، كون هذا الأسلوب في التربية سيؤدي إلى النتائج الجيدة ذاتها مع أولادهم. إذ هم يستخدمون ذات الأساليب مع أولادهم لضبطهم بشكل أكبر داخل المنزل، وحتى خارجه، أو في حال عنادهم وارتكابهم الأخطاء، أو لمنعهم من تجاوز المحظورات التي تضعها الأسرة لهم.

إلا أن الصراحة تقتضي القول بأن أساليب التعنيف والتوبيخ والقسوة والتسلط والضرب تعتبر من الأساليب السلبية غير التربوية والخاطئة، فليس الضرب والعقاب هو الأسلوب الأمثل في التربية وتنشئة الأطفال. فتعنيف الأطفال ومعاقبتهم بالضرب في سن مبكرة يجعلهم أكثر عدوانية، ويجعل سلوكياتهم سيئة جداً، وذلك حسب ما ذكرته دراسة حديثة. حيث وجد باحثون أمريكيون أعدوا هذه الدراسة بأن نمط أو نظام التنشئة والتهذيب الذي يتضمن الضرب يؤثر بشدة في الأطفال بغض النظر عن علاقة الآباء الجيدة بالطفل في كل الأوقات التي لا تتضمن العقاب.

وتشير البروفيسورة ”شوانا لي“ المحاضرة في كلية الخدمة الاجتماعية في جامعة ميشيغان بالولايات المتحدة إلى أن ”ثمة اعتقاد شائع مفاده أن الضرب الذي يرد ضمن علاقة إيجابية بين الطفل وأبويه لن يصيب الطفل بضرر، ولكننا في هذه الدراسة اكتشفنا بعد اختبار هذا المفهوم أن الضرب يؤدي إلى سلوك أسوأ، وليس أفضل للطفل بمرور الوقت، بغض النظر عن حنان ودفء الأمهات مع أطفالهن. مضيفة بأنه على الرغم من الدراسات والأبحاث العديدة التي تشير إلى زيادة عدوانية الطفل نتيجة للصفع والضرب لا يزال الآباء يستخدمون العقاب الجسماني لتهذيب الأطفال.“

وفي الوقت ذاته، كشفت دراسة أخرى أن الآباء والأمهات الذين يهددون أو يصرخون على أبنائهم المراهقين يجعلونهم أكثر أرجحية للإصابة بالاكتئاب وبسلوك مضطرب. وأشارت الدراسة إلى وجود مهددات متزايدة للإصابة بالاكتئاب واكتساب سلوك سيئ وسط البالغين الذين يتسم أسلوب تنشئة آبائهم لهم بالخشونة والانتهاكات اللفظية والجسدية. ونبهت الدراسة إلى أن هذه المهددات والمخاطر تزداد عند المراهقين الذين يضربهم أباءهم أو يهددونهم بسلاح ناري أو سكين.

وقالت الدكتورة ”أنيت ماهوني“ أستاذة علم النفس في جامعة ”بولينغ غرين“ في ”أوهايو“ والتي أشرفت على هذه الدراسة: ”بأن السلوكيات اللفظية تؤثر، وقد يكون من السهل تجاهل ذلك، ولكن دراستنا تظهر أن التعنيف يلعب بالفعل دوراً، خاصة بالنسبة إلى الأمهات اللائي يصرخن ويضربن، والآباء الذين يأتون بواحد من هذه الأساليب“. وتضيف الدكتورة ”ماهوني“ بأن السيطرة على المراهقين تصبح أصعب إذا كانوا يعانون مشكلات سلوكية، وهذا يعني أن أرجحية لجوء آبائهم للتهديدات تصبح أكبر.

ولخدمة أغراض هذه الدراسة، عبأ 239 مراهقاً مضطرباً تراوح أعمارهم بين 11 و18 عاماً استبياناً وجهت لهم فيه أسئلة تتعلق بما إذا كانوا قد تعرضوا للضرب، أو الشتم، أو خضعوا لأنماط اخرى من العنف اللفظي أو الجسدي. كما شارك في هذا الاستبيان آباء المراهقين أنفسهم، حيث سجلوا سلوكاتهم. حيث ذكر 51% من المراهقين أنهم اختبروا تعنيفاً جسمانياً أو لفظياً خطراً من واحد من الآباء أو من كليهما.

ووجد الباحثون أن الأبناء الذين لديهم أمهات يصرخن ويتسمن بالعنف إزاءهم أيضاً يتسببن بزيادة مخاطر إصابة الأطفال الذين يعانون مشكلات عقلية أكثر من الأم التي تتصف بسلوك عنيف واحد. وقالوا إن هذا قد يكون نابعاً من شعور المراهقين بأنهم مهددون ويرزحون تحت وطأة ضغط نفسي كبير، حينما تكون فرص تعرضهم لعنف جسدي قوية وحقيقية.

وبالمقارنة، اكتشف الباحثون أن الصراخ من طرف أمهات، لم يسبق لهن تصعيده لعنف جسدي، لا يبدو أنه يزيد مخاطر التعرض لمشكلات نفسية وسط المراهقين. وبالمقابل، أظهرت النتائج أن تعنيف الآباء اللفظي أثر بالفعل في صحة المراهقين النفسية بغض النظر عما إذا كانت التهديدات مصحوبة بعنف جسدي". [2] 

خلاصة القول إن لجوء الآباء والمربين إلى القسوة والعنف في التعامل مع الأبناء تحت شعار التربية والتهذيب الأخلاقي، هو أسلوب عقيم وغير مجدي في تقويم سلوك الأبناء. وإذا ما نجحت هذه الوسيلة في بعض الحالات إلا أنها تظل وسيلة عقيمة في أغلب الحالات، فنتائج الضرب عادةً ما تكون مؤقتة ولا تدوم عبر الأيام، فهو لا يصحح أفكار الأبناء، ولا يجعل سلوكهم مستقيماً، بل له عواقبه الوخيمة عليهم بدنيّاً وعقليّاً ونفسيّاً في حاضرهم ومستقبلهم. لذلك من المهم ”أن يَحذر الوالدان من مغبة ضياع الأطفال عندما يكبرون بالوقوع في إدمان المخدرات، وذلك كنوع من الانتقام من التأديب القاسي، حيث أنّ غالبية من يتعرضون لهذا النوع من التربية يصبحون أشخاصاً غير أسوياء في المجتمع، وقد يكونون أباء وأمهات قاسين مع أطفالهم، يستشهدون بما تربوا عليه في الصغر، ويتوقعون دائماً أنّ تربيتهم العنيفة هي الأسلوب الصحيح“. [3] 

وفي موازاة ذلك تشير التقارير الصادرة عن المنظمات والهيئات ذات الشأن إلى أن العنف يمكن أن يكون له آثاره السلبية طويل المدى على الأطفال. والعنف المقصود هنا هو كل أشكال الإساءة الجسدية واللفظية التي يمارسها الآباء والمربين تجاه الأبناء والأطفال الصغار، فالألفاظ الجارحة، كما هي الأفعال القاسية، تُخلِّف جُروحاً غائراً في النفس قد يصعب اندمالها.

لذلك تأتي أهمية الاعتناء بتربية الأبناء في سنواتهم الأولى، وعدم إساءة معاملتهم، كون هذه السنوات من أهم مراحل النمو والتطور التي تؤثر سلباً أو إيجاباً على الحالة الصحية العامة خلال المراحل المختلفة من رحلة الحياة. فالمشاكل الصحية، والطبية، والسلوكية، والاجتماعية، التي تنتشر بين البالغين، كما تشير خلاصة الدراسات، يمكن ردها في كثير من الأحيان إلى مشاكل تعرض لها الطفل في السنوات الأولى من حياته. فالأطفال الذين يتعرضون لمثل هذه الإساءات يمكن أن يصابون بالاضطرابات العقلية والنفسية، كالقلق والاكتئاب، ويتعرضون للسمنة، ويصابون بأمراض القلب، ويقل تحصيلهم الدراسي، وتقل قدراتهم اللغوية والحسابية، وتظهر الروح العدوانية في سلوكهم وتصرفاتهم اليومية، كما تتعرقل مسيرة حياتهم وتطورهم الروحي والإبداعي.

[1]  8 أساليب خاطئة في تربية الأبناء. خورشيد حرفوش. جريدة الاتحاد الإماراتية.

[2]  تعنيف الأطفال يجعلهم أكثر عدوانية. جريدة الخليج الإماراتية. ملحق صحة وطب.

[3]  لا تضرب طفلك أمام الآخرين. تحقيق من إعداد منى الحيدري. جريدة الرياض.