آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:30 ص

إلى الداخل العوامي: المداراة - أدب الخلاف «10»

الشيخ عباس السعيد *

تذويب الاحتقان الحاصل في المجتمع العوامي الذي أنتجته أزمته الراهنة، وتجاوز الانقسام بين أطيافه واتجاهاته وخطوطه الثقافية والفكرية، وإزاحة ما خلفه من هواجس ومخاوف وسلبيات تعيق عملية التلاقي الإيجابي، يمكن إنجازه وتذليل طريق الوصول إليه بالتمسك بالحكمة وتوخي الأساليب الحكيمة ومداراة المؤمنين بالكلمة اللينة الجميلة التي تؤلف القلوب، وتشرح الصدور، وتفتت العداوات، وتلتف على كل مواطن التشنج والتوتر.

إن مقابلة المؤمنين الذين يعيشون اهتزاز الانفعال وهيجان الاحتقان والحدة النفسية، بمنطق المداراة، وتفادي المصادمة معهم، والعمل على احتوائهم، ومراعاة اتجاهاتهم الفكرية وقناعاتهم الثقافية التي قد تدفعهم إلى الحدة والإساءة، ومدافعتهم بالحكمة والكلمة اللينة والصحبة الجميلة التي تهدئ الخواطر، وتؤلف القلوب، وتجمع الكلمة، وتحفظ للمجتمع وحدته وترابطه، يعتبر من الأخلاقيات الاجتماعية والسياسية الرفيعة التي بالغت الآيات القرآنية والروايات الشريفة في مدحها وإعلاء شأنها والحث عليها، حتى وصفت بأنها: ”نصف الإيمان“ و”رأس الحكمة“ و”رأس العقل“ و”ثمرة العقل“ وعنوان ”العقل“، وأنّ فيها سلامة الدين والدنيا.

ولقد حذرت الآيات القرآنية من مقابلة المخالفين ممن يعيشون اهتزاز المشاعر وضغط الانفعال بالأساليب الخشنة السيئة التي تعقد الخلافات وتأزم الأوضاع، وألفتت إلى ضرورة توخي الأساليب الحسنة الحكيمة التي تفتت العداوات وتؤلف القلوب: قال سبحانه وتعالى: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ».

قوله تعالى: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ» تنبيهٌ وإلفاتٌ لكم أيها المؤمنون، إلى ما ينبغي عليكم أن تتوخوه من أساليب وأنتم تقابلون من يخالفكم في الرأي ممن يعيش عقدة الحقد أو العداوة، وبيانٌ للفارق الجدي والمفصلي بين الأساليب الحسنة اللينة التي تمكنكم من تطويق مشاكلكم وخلافاتكم البينية، وبين الأساليب الخشنة والسيئة التي تعقد خلافاتكم وتأزم أوضاعكم؛ فلا تستوي المداراة بالصدام والمواجهة، ولا يقاس الحلم وضبط النفس بالانفعال والطيش، ولا تقارن الكلمة الحسنة اللينة الوادعة بالكلمة السيئة الخشنة العنيفة لا في مقام الذات والطبيعة، ولا في مقام النتائج والآثار، فالسيئة تصدر من موقع الجهل وطبيعته الغرائزية الفظة الغليظة، التي تتحرك بالعدوان والهوى وتنتهي إلى الضياع والتيه، والحسنة تصدر من العقل وتتمثله في جماله، وفي طبيعته النورانية الهادية، التي تحفظ للأشياء مواضعها وموازينها، وعليها مدار الحفظ والسلامة في الدين والدنيا.

قوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» إرشادٌ ودعوةٌ لكم أيها المؤمنون إلى أن تقابلوا من يخالفونكم بأحسن الطرق، وتدفعوا ما يضمرونه من الأحقاد والعصبيات بأجمل الأخلاقيات والأساليب التي ينبغي أن تتناغم مع الإسلام في روحه، وتجسده في نبله وعلوه، من التعامل معهم بالحكمة والحوار والتسامح والحلم والعفو والإحسان والموادعة، وسائر الأخلاقيات الرفيعة وعلى رأسها المداراة، والتي ينبغي أن تدفعكم إلى احتوائهم وتلافي المصادمة معهم، ومقابلتهم بالكلمة اللينة والصحبة الجميلة.

قوله تعالى: «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» إيضاحٌ إلى الآثار العميقة للمداراة، وبيانٌ لتأثيرها الساحر ودورها الكبير في إزاحة الهواجس والمخاوف، وتفتيت العداوات والضغائن، والالتفاف على كل بؤر الخلاف والتوتر، وإرساء ركائز الأمن والسلام.

وقال سبحانه وتعالى: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» بيانٌ لمنطق الدعوة الذي من خلاله تخاطب الرسالة الكينونة البشرية بالكلمة اللينة الهادية التي تعمل على إثارة العقل وتحريك الفطرة الإنسانية، في حركةٍ منطلقةٍ تنفتح على جميع البشر، وتفتح لهم أبواب الهداية، فلا تعيش عقدة نفسية ممن يخالفها أو يعاديها، ولا تغلق أبواب الهداية على أي أحدٍ أو تستبعده من خطابها وحسابها.

وإذا كانت الكلمة اللينة الحكيمة المنفتحة تمثل منطق الرسالة مع من يقفون منها موقف العداء والمعارضة ويحيكون ضدها المكائد والدسائس، فتطبيقه في مخاطبة المؤمنين الذين يعيشون ضغط الانفعال والاحتقان أجدى وأولى.

وقال سبحانه وتعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ».

ومورد الآية الكريمة بعد واقعة أحد بما تضمنته من أخطاء فادحة صدرت من بعض المسلمين الذين لم ينصاعوا لأوامر رسول الله ﷺ، فتسببوا في قلب مجريات المعركة وإلحاق الهزيمة بالمسلمين، وسقوط العديد منهم بين شهيدٍ وجريح، فضلاً عن تعريض رسول الله ﷺ إلى خطرٍ عظيمٍ وتهديدٍ فعليٍ كاد ينهي حياته ووجوده ﷺ، ومع ذلك كله قابلهم رسول الله ﷺ بمنطق المداراة والاحتواء، وتلافى معهم كل أشكال التعنيف والخشونة.

وقوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ» بيانٌ لموقف رسول الله ﷺ في مقابلة المسلمين وما صدر منهم من أخطاء وسيئات بالخلق النبوي الرفيع الذي ينطلق من موقع الرحمة ومنطق المداراة التي يخاطب المخطئين بالكلمة اللينة الرحيمة التي تلزم جانب الرفق وتتفادى الصدام والخشونة.

ومما قدمناه من البصائر القرآنية نوصي بما يلي:

1 - مداراة المؤمنين الذين يعيشون أجواء الانفعال والحدة النفسية، وتلافي المصادمة معهم، والعمل على احتوائهم بالحكمة والكلمة اللينة التي تؤلف القلوب، وتدفع الهواجس والمخاوف، وترسي ركائز الأمن والسلام.

2 - ضرورة تجنب أساليب الصدام والخشونة التي تعقد الخلافات وتأزم الأوضاع.

3 - ضرورة مخاطبة الجميع بالكلمة اللينة المنفتحة التي لا تستبعد أحداً من خطابها، مهما كانت خلفيته النفسية أو حدته في الخلاف.

4 - مقابلة المؤمنين المخطئين بالكلمة اللينة الرحيمة التي تتفادى الصدام والخشونة.