ماذا يعني محرم؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين جميعاً ورحمة الله وبركاته. عظم الله أجورنا وأجوركم بمصاب سيد الشهداء وأهل بيته وأنصاره، ورزقنا الله وإياكم زيارته وشفاعته.
فضل البكاء على الحسين :
في حديث عن الإمام الرضا أنه قال لأحد أصحابه: «يا ابن شبيب، إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً، ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات والأرضون لقتله... يا ابن شبيب، إن بكيت على الحسين حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً» [1] .
البكاء على الحسين ليس بكاءً على شخص شرّف الوجود ثم غاب عنه في مشهد مأساوي فقط، إنما هو بكاء على رسالات السماء المهدورة المضيعة، وكرامات النبوة المصادرة والمبعثرة. فعندما يبكي الإنسان الحسين فإنه يبكي الحقيقة التي وُئدت في مهدها، ويستحضر ذاتاً ليس لها نظير في وقتها.
فالإمام الحسين ابن علي وفاطمة، وابن النبي الأعظم محمد ﷺ ونحن إذ ندخل في أيام عزائه يحتم علينا الوضع أن نستفيد من سيرة وأقوال الأعلام الذين وضعوا لنا نصباً على الطريق، ورفعوا لنا أعلاماً تشخص لنا المفترقات. فأولئك الأعلام هم الأمناء بعد الأولياء الصالحين الذين هم أوصياء الأنبياء والرسل. فعلماؤنا البررة ما انفكوا يسيرون على نهج أهل البيت ولا يمكن أن يُقرأ فيهم إلا ذلك، غاية ما في الأمر أن المباني تختلف فيما بينهم وفقاً للدراسات التي درسوها، والعلوم التي جمعوها، والثقافات التي ولجوا إلى أروقتها، وهي بطبيعة الحال تختلف من فقيه لآخر، لذلك يذهب البعض إلى مسافات بعيدة، ويرى المبرر الشرعي معه، ويقبض الآخر في مقابل من بسط، ويرى أيضاً أن المعذّرية الشرعية والحجة قائمة بيده، وتقف نمرقة أخرى في الوسط بين هؤلاء وهؤلاء، حاولوا أن يوجدوا حالة أو مساحة يلتقي عليها جميع الأطراف قراءةً واتباعاً، ولكل من هؤلاء مسؤوليته وحجته بين يدي الله تعالى، التي يتماشون على أساسها.
أما نحن فعلينا أن ننتبه إلى مسألة شرعية تعنينا كثيراً، وهي أن الأمر إما أن يكون في الخارج في دائرة التكليف الذي لا تُرفع العهدة منه إلا بالرجوع لمن يجب الرجوع إليه، فعلينا أن نكون ممتثلين ولا يعنينا من قال. أو أن يكون الأمر بديهياً لا يحتاج للرجوع إلى من يشخص فيه التكليف، فقيهاً كان أو مرجعاً، عندئذٍ يكون الأمر بيد المكلف نفسه. فالرجوع إلى أهل الذكر يكون في حال عدم العلم، أما في حال العلم فنحن في مندوحة من ذلك.
فإذا ما أردنا أن نكون حسينيين، فعلينا أن نكون صادقين مع أنفسنا لنصدق في تعاطينا مع ملحمة الإمام الحسين الكبرى، لأنه أراد في نهضته الصدق والصبر والثبات والتضحية اللامحدودة، وأراد للأمة الوعي والرشاد، وأن تعيش الآخَر، كما أراد لها أن تستقطب الآخر في آخر اللحظات.
قراءة المفكرين لنهضة الحسين :
لقد كان الإمام الحسين يبكي في اليوم العاشر من المحرم، لا لأنه يخشى القوم أو يخاف القتل، فالنتيجة لديه محسومة، لعلمه وتسديده من خلال الوحي، إلا أنه كان يقول: أبكي على هؤلاء الذين يدخلون النار بسببي «أي بقتلهم إياه». فإن كنا نبكي الحسين فلتكن الدموع منطلقة من نفس صافية، وروح مصفاة، وقراءة واعية، وثبات على الموقف، لكي تعطي الدمعة أثرها في سلوكنا وحياتنا. وإذا أردنا أن نلطم صدورنا فهذا لا يعني الأسف فقط، إنما يعني الحركة، لكي نوقظ هذ القلب من سبات طويل، ونجعل من نبضه يردد مفردة «حسين» في كل آن، ونوقف حالة النوم والسبات الطويل للقلب، فالقلب هو العقل عند بعض الفلاسفة كما ذكرت في إحدى صلوات الجمعة، فيحتاج إلى إيقاظ، تارة إلى إيقاظ ماديّ، وأخرى إلى إيقاظ معنوي، لكن حركة اللطم تنطوي على بعد معنوي عميق.
إن الإمام الحسين نقرأه من خلال أولئك الفقهاء والعلماء والمفكرين الذين أضاؤوا قلوبهم فأضاؤوا بإشراقاتهم المشهد من حولهم.
فالسيد الإمام «رضوان الله تعالى عليه» وهو ابن فاطمة وعلي والنبي نسباً وانتساباً، هذا الرجل العظيم عندما يستهل محرم يوجه خطابه للأمة الحسينية التي تعيش الحسين مشهداً حضارياً واعياً مشبعاً بالمعاني السامية. فيقول: لا تحاولوا أن تعتاشوا من مأساة الحسين، ولا تستغلوا موسم الحسين لإثبات ذواتكم، وإظهار بطولاتكم، ولا تذهبوا للمآتم لإراحة أنفسكم، بل لتتعلموا من الحسين كيف أصبح الحسين . فلا توظفوا الحسين وقضيته لأغراضكم النفسية والحياتية.
فهنالك من لا يجد سبيلاً للعيش والتكسب إلا من خلال مأساة الحسين ، وهناك من يستغل هذا الموسم، في جمع الأموال والتصيد وإثبات الذات وغير ذلك، وربما فيما هو أخطر من هذا. فمسؤول الحسينية مثلاً لا ينبغي أن يكوّن لنفسه كياناً خاصاً على حساب المعزين، إنما عليه أن يكون خادماً صغيراً. فالسيد الإمام «رضوان الله عليه» كان يدور بالشاي على الحاضرين في مجلس أبي عبد الله الحسين وقد بادر أحد طلابه ذات مرة ليتناول الصحن منه فأبى، فقال له تلميذه: إنها المرجعية لاحظوا القراءة الناقصة في ذهن البعض، أي أنه لا يتناسب معك كمرجع أن تدور بالشاي على الحاضرين في المجلس فقال له السيد الإمام: إنه لمن الشرف العظيم أن يكون الإنسان خادماً في مجلس الإمام الحسين فلا تجعل من هذا أي المرجعية حاجزاً دون ذلك الشرف العظيم.
فينبغي أن لا يكيّف المرء نفسه بناءً على ما يجري من حوله، إنما عليه أن يعيش منصهراً في المناسبة كواحد من الموجودين.
يقول السيد الإمام في كلامه السابق: «وإظهار بطولاتكم» فهنالك من يتسابقون في ذبح الذبائح وتهيئة الطعام، فهل هذا كل ما أراده أبو عبد الله؟
الإخلاص في التعزية:
وأهمس هنا همسة في أذن كل صاحب حسينية فأقول: عليك أن تنتقي الخطيب الذي يربطنا بالمأساة من جهة، ويضيء لنا الطريق من جهة أخرى، بعيداً عن الاستعراض، فهذه الأيام العشرة أيام الحسين .
كما أن إظهار البطولات يكون حتى في العزاء، فأنت تلطم قربة إلى الله تعالى، فعندما تزيد في اللطم إظهاراً لقدرتك وقوتك فقط، فإن عامل الإخلاص يتدنى شيئاً فشيئاً، بل هنالك من يلطم فترى علامات الوشم على يديه وهي تعكس أبشع الصور والمظاهر، فمثل هذا لو تحرك الحسين في وجدانه حقاً، فهل تكون لديه الجرأة أن يعري قسماً من جسمه وهو يحمل بعض الصور والحروف التي ربما لا يفقه معناها؟ فالصليب النازي مثلاً يختلف عن الصليب عند سائر النصارى، فهل تتصورون أن أحد المعزين يحمل وشم الصليب النازي «الهتلري» على كتفه؟!
فعلى المعزي أن يعزي بوعي، كما كان الشريف الرضي «رحمه الله» مثلاً، فقد دخل من باب القبلة وهو يلطم على رأسه وصدره، وما إن وصل العتبة الطاهرة حتى أغمي عليه. وكما كان الشيخ محمد جواد مغنية، الفقيه المفكر القاضي «رحمه الله» الذي رأي موكباً يهم بالدخول لحضرة الإمام الحسين . يقول «رحمه الله»: استغربت الحركة بادئ بدء، فقد كانت هرولة غير طبيعية وكأنها تخرج عن دائرة الخشوع، ولكن ما شعرت بنفسي إلا وأنا في داخل ذلك الجمع، وربما كنت في حالة أكثر مما كانوا عليها. لكن دافع هؤلاء كان الانصهار، وليس الالتفات ليقال: فلانٌ فعل وفلان فعل. فالإخلاص هو الشرط الأول في كل عمل، لا أن تذهب للمسجد ليقال: فلان يذهب للمسجد، ولا تطبخ للحسين ليقال: فلان يطبخ، إنما عليك أن تجعل ذلك لله ومع الله، واستحضر الحسين في وجدانك، وخذ المكاسب الدنيوية والأخروية، وهذا أمر طبيعي جداً.
يقول السيد الإمام: «ولا تذهبوا للمآتم لإراحة أنفسكم». فالحسين بقي ثلاثة أيام على رمضاء كربلاء، تصهر جسمه حرارة الشمس، وهو جسد بلا رأس، فكيف يبحث المعزي عن الراحة؟ سواء كانت الراحة في المكان، بأن تكون الحسينية مريحة من حيث أماكن الجلوس والمستلزمات، أو الفعل، بأن يتخذ الحسينية محلاً لراحته، من حيث كونه يختلط بالناس، أو يستأنس بهم، أو ما أشبه ذلك من الأمور. فأنت في مأتم لا في عرس، فاجلس حيث انتهى بك المجلس.
يقول السيد الإمام: بل لتتعلموا من الحسين كيف أصبح الحسين فلا توظفوا الحسين وقضيته لأغراضكم النفسية والحياتية. أي لا تجعلوا الحسين ونهضته وسيلة من وسائل المنفعة الشخصية والاجتماعية.
حفظ النهضة الحسينية من التشويه:
إن الإمام الحسين عندما كان في المدينة وبلغه خبر تولية الأمر ليزيد بعد معاوية، اعترض في ضمن من اعترض، وهذه واحدة من القضايا التي ينبغي أن يسلط عليها الضوء، فما الذي جرى بين الإمام الحسين ومعاوية خليفة الشام، من مراسلات وحوارات وغيرها؟ فالأمر بأخذ البيعة من الحسين أو قتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة كان مرحلة متأخرة. فالإمام الحسين كان يعلم منذ اليوم الأول من موقفه إلى أين ستؤول الأمور وتنتهي النتيجة، ويعلم أن في النتيجة صلاح الأمة وديمومة الدين، واستقامة الطريق بعد الاعوجاج، وهذا هدف الإمام الحسين . لذا كانت التضحية من أجل الهدف المعلوم النتائج من الأمور التي رغّب بها الشارع المقدس، أما إذا كان الأمر على العكس من ذلك فعلى الإنسان أن يضبط الإيقاع جيداً، وأن يحدد بدقة متى يضحي ومتى يُحجم، فالمؤمن كيّس فطن، والمسلم يستلهم الفطنة ويستقيها من معطيات الآيات الشريفة والنصوص الروائية المقدسة، وهدي الأعلام البررة تحديداً، فليس كل من حمل العلم كان باراً.
لقد كتب الشهيد المفكر الفقيه الفيلسوف الكبير مرتضى المطهري «رحمه» كتابه «الملحمة الحسينية» فعالج فيه الكثير من الإشكاليات، وقد مر على الكتاب أكثر من أربعين عاماً ولا زال حياً طرياً، ومن الجميل أن نقرأ هذا الكتاب. وأنا لا أقول: إننا نسلّم لكل ما ورد فيه، إلا أنه اشتمل على معالجات جبارة ضخمة ناهضة توعوية حية حركية تدور في فلك المنظومة الأصيلة وهي ما جاء عن محمد وآل محمد بطرق معتبرة.
يقول الشهيد مطهري في ملحمته الحسينية: استشهد الإمام الحسين ثلاث مرات: استشهد على يد اليزيدين بفقدانه لجسده، عندما قتل في كربلاء ومُثّل به. والثانية على يد أعدائه الذين شوهوا سمعته وأساؤوا لمقامه، وأما الثالثة فعندما استشهدت أهدافه على يد البعض من أهل المنبر الحسيني، وكان هذا هو الاستشهاد الأعظم، فالحسين ظُلمَ بما نسب له من أساطير وخرافات.
إن عملية التشويه أيها الأحبة عملية خطرة، ونحن اليوم مبتلون بها أشد الابتلاء، فهناك من يتحدث بخطبة لخمس وأربعين دقيقة فيؤخذ منها خمس وأربعون ثانية، فهل تبقى لها روح؟
لقد وصف القرآن الكريم بعض من يقتطعون الآيات بأنهم يجعلون القرآن عضين، فلو اقتطعنا قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلمُصَلِّيْنَ﴾[2] ، هذا يعني أن المصلين جميعاً في نار جهنم. هذا هو منطق البعض هذه الأيام، بحيث يبتر كلام العلماء الأعلام والآيات العظام، ويوظف المبتور في سبيل قضيته التي يتبناها، فيترتب على ذلك إسقاط المتكلم وتمزيق الصفوف.
إن البعض قد يتصور أن هذا العمل وليد اليوم، إلا أنه ليس كذلك، وله جذور وأصول منذ القدم، فلو لم يكن هنالك تشويه إعلامي وقطع وبتر ولصق، لما سأل أهل الشام عند سماعهم نبأ استشهاد أمير المؤمنين وهو في الصلاة عن كونه كان يصلي أم لا؟ ولما تعجبوا من أنه كان يصلي.
لقد وصلت الأمور إلى حدّ أن بعض الآباء يخير ولده بين أن يترك فلاناً من الناس أو يترك البيت! فهل هذا مقبول ومعقول؟ ثم يأتي هذا وأمثاله ليلطم على الحسين ويبكي ويفعل ما يفعل. فهل هذا هو الحسين ؟ وهل هذا هو طلب الإصلاح الذي أراده الحسين ؟
بلغ الحال بأحدهم أن يخير زوجته بين العدول من مرجع إلى مرجع في التقليد، أو الطلاق وبيت الأهل! فهل هذا اقتراب من مدرسة الحسين أو انقلاب عليها؟ فإن كان الوضع بهذا المستوى من التعامل فسوف يكون القادم مخيفاً.
وقفة مع انطلاقة النهضة الحسينية:
نعود لما ذكرناه سابقاً من بيعة زيد بن معاوية، فلما عقد معاوية الولاية لابنه يزيد اعترض عليه جماعة، كان منهم الإمام الحسين وكان صوته أعلى بسبب مقامه العظيم. وكان له حوار مع خليفة الشام عن طريق المراسلات، وخلاصته استنكاره لتلك الخطوة التي قام بها معاوية، لعلم الإمام الحسين بحيثية يزيد، بل لعلم الأمة بما هو عليه.
وقد رفض معاوية بدوره اعتراض الإمام الحسين وقال له: لعلك تعني نفسك. أي لعلك ترى نفسك أصلح منه. فقال له الإمام الحسين : وما يمنع ذلك من كان علي أباه، وفاطمة أمه؟.
قال معاوية: أما فاطمة فهي أفضل، لأنها من قريش، وأما علي فلا، لأن المسلمين قدموني بعد ما علمت.
بل ذهب معاوية إلى أكثر من ذلك، إذ فضّل يزيد على الإمام الحسين فقال: إني أرى في تولية يزيد إصلاح الأمة.
وهذا الكلام اختصرته من كتاب الفتوحات، الجزء الرابع صحيفة 240. وهو ليس من كتب الشيعة.
فالإمام الحسين بالنسبة لنا أمانة، وعلينا أن ننهض بتلك الأمانة ونتحمل المسؤولية ونحافظ عليها، ولكن في دائرة الوعي والإدراك والمعرفة، ولا يتم لنا ذلك حتى نتعرف الحسين والثلة التي ضحت من حوله من أنصاره وأصحابه، فماذا نعرف عن 72 شهيداً من أنصاره الذين ضرجوا بدمائهم بين يديه؟ إننا لا نعرف سوى القليل عن حبيب بن مظاهر الأسدي، والحر بن يزيد الرياحي، في حين أن الرواية الشريفة تصفهم بأنهم لا نظير لهم. فلا بد أن نتعرف عليهم بشكل أكبر لنستلهم من مسيرتهم الدروس والعبر.
وفقنا الله وإياكم لزيارة الإمام الحسين والإفادة من عطائه، إنه ولي ذلك، وأوصي مرة أخرى بالهدوء التام، والحضور في المجالس بالسكينة والوقار والانصهار بالحسين وآل الحسين لكي نخرج بالفوائد الجمة في هذا الشهر.
والحمد لله رب العالمين.