منهاج السالك الحسيني «13» إخراج الطاعم عن محدوده والأكل والتعلم من الحرام وتخوين الفضائل
توصيات للمستمعين عامّة
فأول التوصيات كان الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر فيه وتحديده. و2 - تشخيصه. و3 - توجيهه. و4 - الإخلاص فيه. والإجابة على التساؤل: هل للإخلاص حدود وتفاصيل يمكن معرفتها؟ و5 - السَّير نحو تحقيق الغرض. وكيفيّة الضَّبْط.
وثاني التوصيات كان التزود. وثالثها كان اختيار الأفاضل واجتناب الشبهة. وقد مضى منه الإجابة على تساؤل: لِمَن نَستمِع؟ وهل نَقتصِر على الحضور لجهة محدَّدة من الخطباء والمحاضِرين..؟ ثم أشرت إلى وجود مَصائد شيطانية كثيرة تَنتظِر السالِك على طريق التَّحقُّق عن الخطيب اللائق للاستماع والتعلم منه، فتعرضت لاثنتين منها بحاجة لتَوجُّهٍ كثير؛ كانت أُولاهما على صَعيد مَسار الشأن الحياتي، وثانيتمها على الصعيد المَعرفي والعِلمي. كما أشرت لأحكام الاستماع خَلْف الشاشة. وكان رابع التوصيات النَّظْم والسجاىا والممارَسات المعاکِسة. وفيما يلي:
لا تَأخُذ مِن الطعام أكثر من حاجتك، وآثِر الفقراء على نفسك إن قَل، وقدِّمهم إن كَفى، وحَبَّذا لو تَأخذ الطعام مِن المآتِم وتُوصله للمحرومين مستغلاً هذه الفرصة، فإنّك إن لم تَكُن ممن يَتبرَّع بإعطاء الطعام للمحتاجين مِن ماله الشخصي وفاتَك الثواب العظيم؛ فهذه خير فرصة للتعويض بأن تعطيهم مِن هذا السَّبيل العام بإيصاله إليهم. ولا تَأخذ الطعام المخصَّص للحاضرين فتَصْرِفه إلى خارج محيطهم لغيرهم أو حتى لمَنزلك؛ لأن هذا الفعل محَرَّمٌ مادام وقع على خلاف ما أباحه المالِك، فكيف تُدْخِل الحرام إلى بطنك أو بطون الآخرين باسم أهل البيت وأنت جئت لتتعلم علومهم وتُهذِّب نفسك وتصلحها بها لتتقرب لله تعالى وتتكامل؟
وكذا لا تَأكل مِن إطعامِ مَن تَعلم باختلاط مالِه بالحرام ومَن تَعلم بأنه لا يُخْرِج حقَّ الله منه ولا يُزَكّيه الزكوات الواجبة؛ فإن أكلتَ منه انقَلَبَ عليك بالدَّاءِ والأَدْواء وكنتَ شريكه في أكل المال بالباطل. ونفس الحال بالنسبة للحضور إلى استماع مَجلِسٍ صاحبه أقامه بمالٍ مختلط بالشبهات أو الحُرُمات وأنت تدري بذلك؛ فإنّ الجلوس فيه استعمالٌ للمغصوب ولا ثَمَرة تُرجى منه ولا حتى في البكاء على الإمام الحسين والنبي والأئمة عنده، فإنّ الحَج والصلاة وهما مِن أَكابِر فروع الدِّين، إذا كانا لا يُقْبَلان بالثوب المغصوب ولا تُقْبَل الصلاة في المكان المغصوب فما بالك بالتعلم أو البكاء على النبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام في مِثل هكذا حال؟
وإذا حَضَرتَ مَجلس الغني؛ فلا تَكُن شَكّاكاً تَهّاماً وَشّاياً بغير حق، لا تُشَكِّك في نقاء عمله وصِدق نيّته بلا مبرِّرٍ مشروع، ولا تَتَّبّع عورته وتَتكشَّف نواقصه وخطاياه، ولا تُشَكِّك في طهارة مَكْسَبِه وماله؛ فإنّ هذا فعلُ الحسود، والحسود بعيدٌ عن ساحة الله مبغوضٌ عنده أَشد البُغْض، بل الحسود - كما نَصَّتِ الأخبار المستفيضة بل المتواترة - كافر بأَنعُمِ الله؛ لأنَّه متمرِّدٌ على تقديره، الله قَدَّر لفلانٍ الثَّراء والغنى؛ فعَلامَ تَتَنَكَّص له كارهاً لِما قَسَمَه الله إليه!
كّنا في عَرَفة، والمَوْسِم مَوْسِمُ الحج المعَظَّم، مَوسم الطُّقُوسِ والخُلوص، وفي عِزِّ يوم عرفات الذي هو لُبُّ الحج وعِنانُ الحاج لقوله ﷺ «الحَجُّ عَرَفات» [1] ، ففيه مَحْو الذنوب ويَخرج الإنسان من الخَطايا كيوم ولدته أُمُّه.
كان الموسم ملتهِباً شديد الحَر، ولبعض الظروف القاسية لم يَكُن هنالك ماءٌ ولا غذاء، وفجأة فُتِحَت مَركبات شحن ضخمة ممتلئة بالطعام، أصحابها جَمْعٌ من التُّجّار المتمكنِين، تَبرَّعوا بها للحجيج، وكانت لكثرتها مُصْطَفَّة بِطُول عرفات تقريباً، فأَخَذَت توَزِّع الأكل والعصائر الباردة والماء على الجميع حتى أَغنت القوافل وكل مَن حَضَر المَوْسِم، بل وكان الفرد يَأخذ بدل الوجبة اثنتين وثلاث وأربع دون أيِّ عتاب، ويَأخذ له ولأهله، وله ولرفاقه..، وكلّما نَفذ ما أَخَذه ذهب وتَزوَّد مجدَّداً من تلك المَركبات بالمجّان دون أي مقابِل، وبتمويل سريع جداً لا عَناء فيه عليه ولا تَعب. المَنْظَر حقيقةً يُثْلِج الصدر، والشعائر شعائر الله، والتبرع فيها بهذا السَّخاء لا يوصَف.
قلتُ جزاهم الله خيراً وكثَّر أمثالهم، لو لم يفِيْضوا على الناس بهذا الخير لهَلكْنا وإياهم، لكن ما يشِيْن لذة هذا الشعور الجليل، أن كان رأي أحد الحجاج الجالسين بجانبي غفر الله لنا وله قائلاً: لا جزاهم الله خيراً؛ إنّ أموالهم لا بَرَكة فيها. قلتُ: ولماذا؟ هل تَعْرِف هؤلاء المتبرِّعِين؟ قال: لا أَعْرفهم، ومَعرفتهم ليست خافية على أحد؛ فإنهم لو كانوا يُزَكّون أموالهم لَما بَطروا وامتَلَكوا كل هذه الأموال الطائلة. قلتُ: إذا كنتَ لا تَعرفهم فكيف قَطَعتَ بما تقول؟ قال: هؤلاء لا يَستحقون الدعاء لهم بخير؛ فالفقر المنتشر بسبب حَجْزِهم أموالهم عن المحتاجين، ومَركباتهم هذه التي تراها ليست إلا للتفاخر بينهم والرياء وربما جَبراً عليهم أو تمريراً لِما في مَخازِنهم مما شارَف على الانتهاء والخَراب. قلت بعد النظر لتاريخ الإنتاج: سبحان الله! هذا تاريخها حديث الصُّنع إذا تَطَّلِع عليه، هل تَقبل أن يقول شخصٌ فقيرٌ وأنت أَفضَل حالاً منه هذا الكلام في حقك؟ قال:
ربما التاريخ مُزَوَّر، والحمد لله أنا لم آكل مالاً حراماً وأُزكّي أموالي أولاً بأول. قلت: مادمتَ يا أخي غير متيقِّن مِن التزوير فلا يَحق لنا هذا الحُكم، وهل تزكية المال أقل أهمية مِن تزكية العقل والقلب واللسان؟ ثم ما يدرينا أن أموالك ومَكاسبك لا حرام فيها وما يدرينا أنك تزكيها أولاً بأول! فنحن أيضاً لا نَعرفك كما لا تَعرفهم، وأنت لا تَعرفني فلربما كان المتبرع أبي أو جاري أو أحد الصُّلَحاء الذين نَعرفهم أو ربما كان أحد أقاربك، وربما كان المتبرِّع أَخذ الإجازة بدَفْع جزء من ماله في هذا الشأن كجزء مما عليه من الزكاة والحق الشرعي؛ فهو إذاً يُزَكِّي ما جعله الله في يده، وأيضاً أنت الآن أَكَلت من مال هذا المتبرِّع، ورَأيناك جَلَبْتَ لك مِن تَبَرُّعه أكثر من مرة، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فما نَفْعُ هذا الكلام إلا أنه يتسبب بانحِسار التقديم وغِياب التكافل وحَمْلِ العاملين المتبرِّعين على ترك العطاء، لو كان الرجل كما تقول يريد الرياء لكان على الأقل كتب اسمه على هذه المَرْكبات المتعاظِمة، ألا تراه كُتِبَ عليها فاعل خير؟ هل تَجِد عليها تسمية لأحد أو حتى كلمة نسألكم الدعاء لي أنا فلان ولو بنيّة الدعاء عن صدق نيّة؟ قال:
لا يستطيع كتابة ذلك حتى لا يشكِّك الآخرين في نواياه الباطلة. قلت: إذاً أنت وشأنك، إننا في بِقاع الله المقدَّسة وفي يومٍ عظيم وجئنا لتطهير قلوبنا وعقولنا ونفوسنا ونَرْجُم الشيطانين؛ الشيطان الأكبر الكامن في الهوى، وإبليس الخَنَّاس وأهله، ونحن في هذا اليوم العظيم والمكان الشريف داعون لهؤلاء المتبرِّعين بزيادة الخير الوفير وأن يَمُن على المؤمنين بما مَن عليهم به وأن يهدينا وإياهم إن كان لهم جَريرة فيغفرها لهم ببركة ما قَدَّموا، ورَقَّقَ الله يا أخي قلبك على إخوانك المسلمين، فهم أَعطَوا لضيوف البيت ونحن أَسَفاً لم نقَدِّم شيئاً ولا حتى أقل القليل.
وأنت أيها المستمِع العزيز، المستمِع لمَجالس الذِّكْر والعِلم، احذر أن تقع في مِثل هذه الأفكار تجاه المؤمنين أو غيرهم؛ فإنّ الذي يَبذل مالَه في سبيل إحياء شعائر الدِّين حبيبُ الله، والله تعالى غيور على أحبَّته لا يساوِم في نُصْرَتهم ولا يَتَخَلّى عن الأَخذ بحقِّهم، وإنه عز وجل ﴿لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ [مُعْجَب بنفسه] فَخُورٍ﴾[لقمان 18]؛ فاعْرِف المِنَن ولا تَكْفُر بالعطاء واشكر وكُن فرداً مشجِّعاً لا مُثَبِّطاً وإلا هَلَكَ الخير واندَثَر.