منهاج السالك الحسيني «12» النَّظْم والسجاىا والممارَسات المعاکِسة
توصيات للمستمعين عامّة
فأول التوصيات كان الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر فيه وتحديده. و2 - تشخيصه. و3 - توجيهه. و4 - الإخلاص فيه. والإجابة على التساؤل: هل للإخلاص حدود وتفاصيل يمكن معرفتها؟ و5 - السَّير نحو تحقيق الغرض. وكيفيّة الضَّبْط.
وثاني التوصيات كان التزود. وثالثها كان اختيار الأفاضل واجتناب الشبهة. وقد مضى منه الإجابة على تساؤل: لِمَن نَستمِع؟ وهل نَقتصِر على الحضور لجهة محدَّدة من الخطباء والمحاضِرين..؟ ثم أشرت إلى وجود مَصائد شيطانية كثيرة تَنتظِر السالِك على طريق التَّحقُّق عن الخطيب اللائق للاستماع والتعلم منه، فتعرضت لاثنتين منها بحاجة لتَوجُّهٍ كثير؛ كانت أُولاهما على صَعيد مَسار الشأن الحياتي، وثانيتمها على الصعيد المَعرفي والعِلمي. كما أشرت لأحكام الاستماع خَلْف الشاشة. وفيما يلي:
وَرَدَ في وصية أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام لمّا ضربه ابن ملجم لعنه الله، وقد ذَكَرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه وأبو الفرج الأصبهاني في مَقاتل الطالبيِّين والشريف الرضي في النَّهْج، قال سلام الله عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أَوصَى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب... [ثم قال للحسن والحسين عليهما السلام:] أوصيكما وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بَلغهم كتابي هذا من المؤْمنين بتقوى الله ونَظْمِ أَمْرِكم..»؛ في اللُّغة: ونَظْمِ أَمْرِكم تقول: نَظم الأشياء نَظْماً أي أَلَّفَها وضَمَّ بعضها إلى بعض. والأمر: الحال والشأن. والمراد: رَتِّبوا أموركم ونظِّموها ولْيَعْرِف كلٌّ منكم ما له وما عليه.
والإمام عليه الصلاة والسلام قال: أُوصِي من بَلَغه كتابي هذا من المؤمنين، فإن كنا حقاً منهم؛ فعلينا العمل بالوصيّة، خصوصاً وأنّ الإمام يقول لنا وصيّته وهو غارقٌ بدمه على فراش الموت. وكذا لِتَنتظم أمورنا يَلزم مَعرفة ”ما لنا“ و”ما علينا“؛ فإذا جئنا لواقعنا ونَظَرْنا إليه بعِناية لنَلْحظ ما لنا وما علينا؛ فإنه لابّد مِن نَبْذ السلوكيات الخاطئة الحاصلة، والتَّحلي بالسجايا والآداب الفاضلة؛ على هذا - مع الالتفات إلى أن الكلام حالياً عن خصوص عنوان المستمِعين - أقول:
هنالك ممارَسات سلبية كثيرة تتكرر، في موسم محرَّم وغيره من مناسبات أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام سيّما الكبرى منها؛ كعاشوراء والأربعين ووفاة النبي في صَفَر وأمير المؤمنين في شهر رمضان عليهما وآلهما السلام، والمواليد، لابُدّ للسالك اجتنابها وللمتعلِّم التّرفُّع عنها، سواء ما تَعَلَّق منها بحضور مَجالس القراءة أو مَواكب العزاء أو ارتياد المَضائف، كما هنالك أيضاً آداب وسجايا حميدة ينبغي الاهتمام بها؛ وذلك من قبيل:
التَّوضّي قبل الخروج للمَجلس، ولبس اللباس اللائق بالمؤمنين، والحِشْمة، وتسريح الشعر بالصورة التي لا تَسْتَنْكِف بها لو كنتَ في مَجلس إمام الزمان وأمِّه الزهراء عليهما الصلاة والسلام وهما حاضران يَريانك، وحُسن الرائحة في مجالِس الرِّثاء مِن غيرِ زينةٍ عُرْفيّة بخلاف المواليد فيُحبَّذ التعطُّر والتزيُّن مع رعاية المرأة للضوابط الشرعية المتعلقة بها من هذا الجانب، والتصدُّق ولو بالقليل، والإبكار بالحضور للمجلس قدر الإمكان، وعدم التعَجُّل، والسَّىر للمَجلس بسَكِىنة ووقارٍ كما كان رسول الله ﷺ، والتَّطوُّع حسب القُدْرة ولو بأقل القليل مهما کانت وجاهتك وقَدْرك الاجتماعيَّين فإنّ الأَكابِر وأَجِلّة الموالين الأعلى قَدْراً وشأناً يُطَأْطِئون رؤوسهم في سبيل خدمة شعائر الله وأئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم.
وکذا يَنبغي وضْع الحِذاء في مكانه المناسب المنتظِم اللائق بِرِقِيِّ مَجالسِهم ورِقيِّ تَدَيُّنِك وسُمعة الإسلام والمسْلمين، والتقدُّم للأمام عند الوصول للمجلس باکراً كي لا تزاحِم حركة القادمين بعدك، والإفساح في المَجلس حال ازدحامها، وعدم مزاحمة الآخرين والتضييق عليهم، واحترام کبار السن بتوقيرهم وتقديمهم إلى أماكن الراحة، والكرم، بل الجود، ورحابة الصدر وانشراح الوجه المختلِط بمَشاعر الحُزن في مناسَبات الحزن وطَلاقة الوجه في مناسَبات الفرح، وعدم إلقاء المنديل وفَضْل الطعام وأوانيه وغيرِها على الأرض في الداخل أو الخارج، وعدم ترك الاستماع والاشتغال بالأحاديث الجانبية أو الأجهزة أو رفْع الصوت فوق صوت القارئ، وعدم الإضرار بالآخرين عموماً والمستمعِىن خصوصاً بأي شكل من الأشكال؛ کاجتناب الضحك إلا مما يَتَقَصَّده الخطيب لذلك فقد كان رسول الله ﷺ يحب للمسْلِم أن يَجلس للتّعلّم مُنْصِتاً مُنتبِهاً، وتَجنُّب القَفْز على الجالسين، واجتناب تَخَطّي الرِّقاب للعُبور للمَواقع الجانبية أو الأمامية إذا كان يَتسبب بالأذى للآخرين فقد كان رسول الله ﷺ يَمنع المسلمين عن تَخَطّي الرِّقاب ليَتقدّموا إلى الصفوف الأولى رغم عظَمة ثواب الصلاة فيها، وقد استثنى البعض من ذلك: الإمام والرَّجُل الصالح والرَّجُل العظيم حيث إن الناس عادةً لا يَتأذون بتَخَطِّيهم لرِقابِهم.
وعدم الأكل والشرب أثناء القراءة بصورة لا تليق، واجتناب الترديد مع القارئ بالحد الذي يُفَوِّت على الحاضرين قدرة التَّلَقي والفهم، وکذا البُكاء والنَّحيب بصوت مرتفع مُفْرِط يَمنع من القدرة على الاستماع للخطيب، وعدم التدافع حين الدخول والخروج، والابتعاد عن التدخين بشتى أشكالهِ في المواقع العامة، وتجنيب الأطفال الضَّوْضاء والمشاغَبة والحركة بين الحاضرين قدر ما أَمْكَن، والابتعاد عن نشر المنشورات الدِّعائيّة وإشغال الحضور عن الانتباه أثناء القراءة، وعدم ذَب أَحذية الآخرين حال أَخْذِك حذاءك أثناء الخروج، ومراعاة الحُرُمات بعدم التزاحم والتخالط بين النساء والرجال حال دخول المجلس والخروج منه أو أمام المَضائف بشكلٍ غير لائق أو بالمَرْكبات من خلال السَّير التّلفيقي أو من خلال رَكْنِها رَكْناً عشوائيّاً أو إيقافها أمام مَداخِل البيوت والخِزانات ومَمَرّات الطَّوارئ تَجافياً لِسَدِّ السَّبيل وإعاقة السَّير والحيلولة دون قضاء الناس حوائجهم، وکذا افتراش المستمِعين الطُّرُقات إن كان مما يَعْسُر معه قضاء الحوائج خصوصاً بالنسبة للنساء وذوي الاحتياجات الخاصة، كذا إن كان يُعَسِّر المسألة الأمنيّة، والابتعاد عن الانضمام للمَواكب السّيّارة بصورة غير منتظمة مِن المُعَزِّين والمستمِعين، والرِّفْق باختيار الطريق الخالية أو التَّرَيُّث إلى حين سلوك الطريق ومناسبته للمشي أو العبور بالوسائل الأخرى، واللُّطف بالنساء فمِنهنَّ الضعيفة ومنهنَّ الحُمَّل... فقد ورد في الخبر الأمر بمراعاتهن بقوله ﷺ «رُوَيْدَك، رِفْقاً بالقَوارِير» [1] ؛ يعني النساء.
والابتعاد عن المَكْث والجلوس أو الوقوف أمام أبواب منازل الآخرين وحُرُمات عوراتهم وکذا الابتعاد عن الوقوف في الطُّرُق أمام المارّة بغير حاجة ماسّة، وتجنُّب جَمع الطعام الكثير للمَنْزل وتَكْدِيْسه بحيث يُحْرَم الآخرون منه ويَتْلَف فالطَّمَع داءُ الأَدْواء، وكف الأذى بأجمعه، والتنازل عن المُخْطِئ والمُسِيء سيّما أصحاب البيوت والمَحالّ حيث ينبغي لهم الرِّفق في توجيه المُخْطِئين والتسامح لوجه الله وحُبّاً للمُوالِين والمتعلِّمين محبّةً للأئمة صلوات الله وسلامه عليهم فلأَجِلِ عَيْنٍ تُكْرَم أَلفُ عَين؛ إنّ إمامنا الحسين سَقى أعداءه الماء - ومِنه نَتعلَّم أَواصِرَ الإيثار -.. فما بالُكَ بالمؤمِن؟
ويجب احترام امتثالات الآخرين والابتعاد عن التَّباغُض والتمَزُّق على أساس الاختلافات التقليدية التكليفية، والتزام ضوابط النَّقد المتقدِّمِ ذِكْرُها، والانتظام في الممارسات الخاصة بالتقليد والتكليف، دون تَجاوُز على حقوق الآخرين والنُظُم الحياتيّة العامة وأحوال الناس كبارهم وصغارهم نسائهم ورجالهم، ومبادَلة المؤمنين التعزية وأحاسيس المَأساة والفرَح سيّما مَن بيْنك وبينهم تَنافُرٌ فإنها أجملُ فرصةٍ وخيرُ زكاةٍ وأَقصَم لظَهر الشيطان وأَسعَد لقلب النبي وأئمتنا ومولانا الغريب عليهم الصلاة والسلام، فقُل في مواساتهم ما أُثِر عنهم صلوات الله وسلامه عليهم بأمرهم لنا أن نقول: أَعْظَمَ الله أجورنا بمصابنا بالحسين وجَعلنا وإياكم من الطالبِين بثأره مع وليِّه الإمام المهدي من آل محمد ..؛ ففيما رواه الشيخ أبو جعفر الطّوسي رحمه الله في المصباح حول ثواب وكيفية التعزية ممن لم يوَفَّق في عاشوراء لزيارة الإمام الحسين سلام الله عليه مِن قُرْبٍ، رَوى قُدِّس سرُّه عن محمد بن إسماعيل بن بَزيع عن صالح بن عُقبة عن أبيه عن الإمام الباقر قال:
«.. ولْيُعَزِّ فيها بعضُهم بعضاً بمصابهم بالحسين وأنا الضّامِن لهم إذا فَعلوا ذلك جميع ذلك [الثواب الجَزيل]، قلتُ: جُعلتُ فداك أنت الضامن ذلك لهم والزعيم؟ قال: أنا الضامن وأنا الزعيم لمن فَعل ذلك. قلت: فكيف يُعَزّي بعضُنا بعضاً؟ قال: تقولون: أَعْظَمَ اللهُ أُجُورَنا بمُصابِنا بالحسين ُ وجَعَلَنا وإياكُم مِنَ الطالبِينَ بثارِهِ مع وليِّهِ الإمامِ المهديِّ مِن آلِ محمدٍ عليهمُ السلام» [2] ، وقال تعالى: ﴿يا أيُّها الذِينَ آمَنُوا إذا قيلَ لكُمْ تَفَسَّحُوا في الْمَجالِسِ فاْفسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لكُمْ.. يَرْفَعِ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنكُم.. دَرَجاتٍ واللهُ بما تَعمَلونَ خَبيرٌ﴾[المجادلة 11]، وقال عَزَّ ذِكْرُه: ﴿واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [أي تَوسَّطْ بيْن الإسراع والإبطاء] واغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصواتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ﴾[لقمان 19].
وقال سيّد الأحرار صلوات الله وسلامه عليه: «الخُلق الحَسَن عبادة والسَّخاء غِنى» [3] ، وقال في المتطوِّعين وأهل الفضائل والكرم والجود: «مَن تَعجَّل لأخيه خيراً وجَدَه إذا قَدِم إلى ربّه غداً» [4] ، كل هذا فضلاً عن المردود الدنيوي؛ حيث إنَّ الخير لا يفارِق صاحبه فيعْقِبه مِن الخَلق - بلُطف الله وعجائبِه - جَميلُ الأُحدُوثة في حياته أو حياة أحبائه..
ففي ”الآداب العقلية والعُرفية“: قِسْ كلَّ فعلٍ مِن غيرِك على نفسك، فإذا قبلتَه عليها فافعله وإذا لم تَقبله فلا تَفعله؛ هذه القاعدة في أغلب الأحوال نافعة وإن شَذَّتْ عنها بعض الحالات؛ إذ تَختلِف أعراف الناس وطبائعهم وكذا مستويات الإدراك. وأمّا ”الآداب الشرعية“ التي تفاصيلها تُعْرَف بالشرع؛ فهذه تُؤخذ منه؛ ومِن ذلك مثلاً عدم شرب الخمر في هذه الأماكن؛ إذ لو فرضنا خمراً لا ضرر فيه - ظاهراً - على مَن بجوارك فلا رائحة مقزِّزة له ولا مُسْكرية فيه باعتبارك ستَشرب قليلاً منه في مَجلس العِلم؛ فهذا المقدار قد يراه العُقَلاء والعُرْف العام - بِغَضِّ النظر عن الدِّين - لا ضرر فيه، بينما الشَّرع لا يراه جائزاً، بل يَحكم بحرمته ومَفْسدته قائلاً في الخبر الصحيح بل المتواتر «ما أَسْكَرَ كَثيرُه فقليلُه حرام» [5] ؛ لذا كان لابُّد في الآداب الشرعية من الرجوع إلى الشارع المقدَّس والرُّكون إلى رأيه؛ وما ذلك إلا لأن الإدراك المَبدئي للعقل والفَهْم الظاهري للعُرْف قاصران عن بُلوغ المَبادئ والمِلاكات الواقعية والحِكَم الخافية عن حدود اطلاعهما وعِلمِهما.
وإن شاء الله تعالى ستأتي وقفة مهمة لبيان مسائل ابتلائية شائعة في هذا الجانب الأخلاقي الضروري أتعرَّض لها بشكل منفرِد.