آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:30 ص

الحلم وضبط النفس - أدب الخلاف «9»

الشيخ عباس السعيد *

الالتفاف على مسببات الخلاف العوامي الذي أنتجته الأزمة الراهنة بين الأشخاص والأطراف والخطوط الثقافية والفكرية وما أعقبه من مناوشات كلامية بينية، والتأسيس لعلاقة اجتماعية إيجابية تتحرك في خط التلاقي والتكامل، ضرورة قصوى لا يبعد تحقيقها إذا تمسكنا بأدب الخلاف وقيمه الرفيعة التي نستطيع من خلالها تحويل ردود الفعل التي تستهلك ذاتها في دائرة الانفعال والارتجال إلى عناصر قوة قادرة على تطويق كل عناصر التأجيج وبؤر التوتر.

ولا يخفى أن مقابلة أي استفزاز أو إساءة أو عدوان بسياسة الحلم، وضبط النفس، وكبح هيجان المشاعر والغرائز التي ترمي بالمؤمنين في أمواج الانفعال والارتجال، وتؤجج فيهم الأنانيات التي تدفعهم للاستغراق في ردود الأفعال، والبحث عن تسجيل نقاط أو تحقيق انتصارات وهمية على حساب المصلحة الاجتماعية، يعتبر من الأخلاقيات الفاضلة الرفيعة التي ينبغي أن يتمسك بها المؤمنون في خلافاتهم الدينية والاجتماعية، عملاً بوصايا القرآن الكريم، وتأسياً بالنبي ﷺ والأئمة الطاهرين .

ولقد امتدح ربنا العظيم في كتابه الكريم المتقين وأولي الألباب الذين يقابلون أي تجاوز أو إساءة بمنطق الحلم الذي يجعل صاحبه في موقع البرود التام والسيطرة المطلقة على المشاعر والغرائز، والانسجام الكامل مع نداء العقل الذي يحكم بالترفع عن الانفعال مع أي استفزاز أو استثارة، قال سبحانه وتعالى: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ».

وقوله تعالى: «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ» الذين يصدر ضدهم الخطأ أو الإساءة أو العدوان، فتمتلئ نفوسهم بالغيظ الذي يدعوهم لتفريغ مشاعرهم السلبية بالرد والانتقام، لكن روح التقوى الكامنة في قلوبهم تدعوهم إلى أن يحبسوا أنفسهم عن الانفعال مع الإساءة في حركة الارتجال الأعمى؛ فلا يستثيرها الاستفزاز فتنحدر عن التزامها الشرعي والأخلاقي.

وقوله تعالى: «وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ» فكظمهم لغيظهم ليس تكتيكاً أو عجزاً عن مقابلة الإساءة بالإساءة، وإنما هو نابعٌ من قلوبهم الطيبة التي تنبض بالتسامح، ولا تحتفظ في جعبتها بشيءٍ من المشاعر السلبية اتجاه من أساء إليها، ولا تعيش عقدةً نفسيةً تحملها على الحقد والضغينة، بل تفتح على الحياة أجواء النقاء والطهارة بالعفو والصفح عمّن حمله الخطأ والاشتباه على الاعتداء والإساءة، لتمنحه بذلك خطاً للعودة والمراجعة.

وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» الذين يعيشون صفاء الروح وجمال الأخلاق وروعة الإنسانية، فصاروا يقابلون من أساء إليهم بكظم الغيظ والعفو عن إساءته والإحسان إليه، ليطفئوا بذلك نار البغضاء والعداوة التي أججها في قلوبهم الخلاف والخصومة، وليؤلفوا بمعروفهم قلوب أعدائهم ويملكونها بإحسانهم وجميل أخلاقهم.

وهي هي سيرة سيد المرسلين وخلفائه الطاهرين ومن سار على دربهم من العلماء الربانيين، واضحة في التمسك بهذا الخلق الرفيع، ومقابلة أي إساءة أو استفزاز بمنطق الحلم والعفو والإحسان الذي يؤلف القلوب، ويجمع النفوس، ويقتلع الشحناء، ويحول الأعداء إلى أصدقاء.

وقال سبحانه وتعالى: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ».

قوله تعالى: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ» فإذا سمعوا الكلمات الفارغة البذيئة المليئة بالكذب والاتهامات والتي لا طائل منها إلا تأجيج الخلافات واستثارتهم للانفعال في دوامة ردود الأفعال التي تستهلك الأوقات والطاقات أعرضوا عنها ورفضوا الانجرار لأي استفزاز يخرجهم عن اتزانهم والتزامهم الشرعي والأخلاقي.

قوله تعالى: «وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ» الاختلاف بيننا وبينكم فكرياً وعملياً حقيقة واقعية ثابتة، ويلزم عدم استنزاف الطاقات والجهود سعياً في رفعها أو تبديلها، بل ينبغي الاعتراف بها والتعايش معها، والتسليم بنتائجها.

قوله تعالى: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» فاختلافنا معكم ينبغي أن ينتهي على قاعدة أخلاقية نظيفة تتحرك في أجواء السلام وتنشر الطمأنينة والأمان، عند الالتقاء والافتراق، وفي كل حين.

قوله تعالى: «لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ» فلا يمكن أن نجاري الجاهلين أو ننحدر معهم في جهلهم وفيما يثيرونه من مهاترات ومناوشات كلامية لا ترتكز على قواعد علمية وأخلاقية.

وفي صفات عباد الرحمن قال سبحانه وتعالى: «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا» فإذا هم واجهوا أي كلمة أو ممارسة تستثيرهم للدخول في أجواء عبثية تفتقر إلى الهدفية والقيمة العملية، ترفعوا عنها ونزهوا أنفسهم عن الدخول فيها، والاستغراق في تفاصيلها حفاظاً على كرامتهم ومروءتهم.

وانطلاقاً مما قدمناه من البصائر القرآنية نتوجه بالوصايا التالية:

1 - مقابلة أي إساءة أو استثارة بالحلم والعفو والإحسان، تأسياً بمنهج الرسول ﷺ والأئمة الطاهرين ومن تبعهم من العلماء الربانيين، والذي أثبتت التجارب فاعليته في تأليف القلوب وتخفيف التوترات.

2 - تجنب ردود الأفعال الارتجالية، وعدم الانجرار لأي استفزازات قد توقع المؤمنين في تجاوزات شرعية وأخلاقية.

3 - عدم مجاراة الجاهلين في جهلهم، والترفع عن الدخول في المهاترات والمناوشات الكلامية الفارغة التي لا طائل من الاستغراق فيها إلا تأجيج الخلافات واستهلاك الطاقات والجهود.

?