منهاج السالك الحسيني «11» الاستماع خلف الشاشة
توصيات للمستمعين عامّة
فأول التوصيات كان الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر في الغرض وتحديده. و2 - تشخيص الغرض. و3 - توجيه الغرض. و4 - الإخلاص في الغرض. والإجابة على التساؤل: هل للإخلاص حدود وتفاصيل يمكن معرفتها؟ و5 - السَّير نحو تحقيق الغرض. وكيفيّة الضَّبْط.
وثاني التوصيات كان التزود من المجالس قدر الإمكان. وثالثها كان اختيار أفاضل المجالس واجتناب الشبهات. وقد مضى منه الإجابة على تساؤل: لِمَن نَستمِع؟ وهل نَقتصِر على الحضور لجهة محدَّدة من الخطباء والمحاضِرين..؟ ثم أشرت إلى وجود مَصائد شيطانية كثيرة تَنتظِر السالِك على طريق التَّحقُّق عن الخطيب اللائق للاستماع والتعلم منه، فتعرضت لاثنتين منها بحاجة لتَوجُّهٍ كثير؛ كانت أُولاهما على صَعيد مَسار الشأن الحياتي، وثانيها على الصعيد المَعرفي والعِلمي. وفيما يلي:
على مستوى التّزوُّد مِن مَجالس الذِّكْر، هناك استفهام يَجُول في الأذهان، مفاده: هنالك مَن يَستمِعون للمجالس في المناسبات وعاشوراء من خلال الآلات والشاشات؛ فهل يكفي التزود العلمي والاستماع من خلال التلفاز والأجهزة الحديثة أم يَلزَم الحضور المباشر؟
والجواب عليه يَتطلَّب أولاً ملاحَظة ”واقِع هذه المجالس“ من جهة، و”واقِع هؤلاء الأشخاص الجالسين خَلْف الأَستار“ من جهة أخرى، فأقول:
إنّ ”واقع مجالس العِلم“ تارة نَلحظه ب ”عنونها العام“، وأخرى ب ”عنونها الخاص“؛ أما ”عنوانها العام“ فهو مِن قبيل الاستماع لمَجالس العِلم والمجالس الحُسينية في أي وقت دون مناسَبة دِينية خاصة محدَّدة الوقت؛ تماماً كالبرامج التلفزيونية العامة أو المجالس التي تسمّى ”عادات أسبوعية“..؛ فإنّ هذا المجالس لا يَلزم فيها الحضور المباشر؛ لأنها لا تراد بالضرورة لإحداث التواجد فيها، حتى ولو كانت مجالس أرحامك وإن كانت صلة الرَّحم مطلوبة، إلا أن مطلوبيتها - أعني صلة الرحم - ليست محدَّدة بحضور مَجالس الأرحام تَعيينياً؛ فالصلة تتحقق بأي مِصْداق عُقلائي عُرْفي يفي بها، ولو بالاتصال الهاتفي والسؤال والتواصل عن طريق الصوت بالتَّعَنّي المقصود البارز...
هذا بالنسبة لمجالس العِلم بعنوانها العام، والتي يمْكِن لنا أن نُدْخِل فيها أيضاً مجالس العُلَماء الاعتيادية؛ فإنّ زيارة العلماء وحضور مجالسهم الاعتيادية وإن كان أجره لا يحصى عَدّاً وأَثَراً كما سَبق أن بيَّنتُ وذَكرتُ رواية النبي ﷺ مع أبي ذر الغفاري التي رواها أمير المؤمنين بنفسه بما فيها من المَقامات العالية لزوّار العُلماء مما يُحَيِّر العُقول ويَجِدّ بالنفْس على الانبعاث للجلوس في مجالسهم والاستفادة من فوائدهم وآدابهم..، إلا أنّ هذا الحضور ليس من الواجب الذي يَلزَم على الفرد عَينياً بأن يَحضرها؛ نعم يجب على كل فرد طلبُ العِلم والتعلم ومعرفة ما هو في مَعْرض ابتلائه مِن مسائل الحلال والحرام الكامِنة في الإلزامات التي هي الواجبات والمحَرَّمات، وهذا الطَّلَب التَّزَوُّدي العلمي الواجب يحصَل بالدراسة في المَدرسة الدِّينية أو في المسجد أو حتى مِن وراء الشاشة أو بالتعليم عن بُعْد أو بأي طريقة أخرى كفيلة بتحقيقه؛ فلا يجب طلب العلم بمسائل الحلال والحرام بطريقة معَيَّنة.
وأما مَجالس العِلم ب ”عنوانها الخاص“؛ فهي تلك المجالس التي ندبنا لها الشرع وأمرنا بها بنحو الشعائر؛ فإنّ الشعائر لا يمْكِن تحقيق إحيائها الشرعي إلا بالحضور المباشر فيها، وإلا عُدَّ الفرد جافياً ومُقَوِّضاً لِفَرْعِ الدِّين الكامِن مثلاً في الولاية..، فإنّ - مثلاً - الموالاة لأهل البيت تَتطلَّب إقامة الشَّعائر المتعلقة بعنوانها الولائي؛ بالتالي فإنّ حضور عاشوراء وما ماثَلها أمرٌ يجب تحقيقه على أرض الواقع، وهذا التحقيق يَكفي فيه مِن العَدَد ما يَكون وافياً بالتكليف الكِفائي عُرْفاً لا أنه يجب على كل فرد، وإن كان مَحْثوثاً له بالتكليف العَيْني على كل فردٍ أيضاً بنحو الحَثِّ الاستحبابي المشدَّد تارة كحضور عاشوراء، وتارة أخرى بنحو الحَثِّ الوجوبي كزيارة الإمام الحسين حسبما أَثبتُّه في مجالٍ آخر بما هو شعيرة عَينيّة واجبة على كل مكلَّف وفق ضَوابطها التفصيلية هناك.
هذا من ناحية ”واقِع هذه المجالس“؛ وأما من ناحية ”واقِع الأشخاص“؛ فإنّ الحضور مرفوع عن جُمْلة مِن الأفراد؛ منهم الأطفال والنساء، حيث إنّ بَقاء المرأة في البيت أَحَبّ للشَّرع مِن خُروجها؛ بالتالي هي مَعْفيّة عن تحقيق الواجب الكفائي، فهو واجب مَجعول على عاتِق الرَّجُل وإن كانت المرأة مُطالَبة أيضاً بالموالاة لهم مِثل الرَّجُل، وكذا الحال بالنسبة للطفل فهو باعتبار ارتفاع التكليف عنه لم يَجب عليه تحقيق المقدار الكفائي، لكن هذا لا يعني عدم أهمية حضورهما - المرأة، والطفل - في هذه المجالس، فالكلام إنما مِن حيث الوجوب وعدمه حيث سيأتي التَّعَرُّض لشأن النساء والأطفال في جزء مختص آخر إن شاء الله تعالى. وكذا الحال تماماً بالنسبة لذوي الاحتياجات الخاصة؛ فإن الوجوب مرتفِع عنهم..
1 - أن عدم الحضور المباشر كلّيّاً، يَهدِم إحياء الشَّعيرة، بل ويَهدِم صورة الاستماع التي يَبحث عنها المتسمِع المستتِر وراء الشاشة؛ سيّما أنّ هذا المستمِع إنما يَستمِع في كثير مِن الأحوال مُرِيْداً للمَجلس الذي قامت صورته على وجود حاضرِين أمام الخَطيب؛ فإذا لم يَكُن هنالك تَحقُّق فِعْلي أساساً لِحضور مباشر فكيف يَتحصَّل له الاستماع وراء الشاشة لمَجالِسٍ مِن هذا القَبيل؟
2 - أن الاكتفاء العام بعدم الحضور، يَقضي على وجود المجالس العامة ويتسبب مِن ثم بانحصارها في البرامج التلفزيونية الخالية عن صِفة المجالس التي نَراها حاليّاً بما لها مِن أوصاف مختصّة كما ستعرف بعد قليل.
3 - أن الحضور بالمقدار الكفائي المؤَدّي لإحياء الشَّعيرة بصورتها الوافية، لا يَمنع مِن استماع البعض مِن وراء الشاشة حتى لو كانوا رِجالاً أَصِحّاء مُكَلَّفِين..
هذا؛ وهنالك أَولَويّات تُراعى وتَنال بفِعل أهمّيّتها حَقَّ التَّقَدُّم؛ وذلك مِن قبيل ما لو كان بَقاء الرَّجُل في البيت والاستماع مِن وراء الشاشة أهم؛ كأن يَكون مضطَرّاً لِحِماية الأُسْرة أو تَحتاج أُسْرَته لوجوده واجتماعها حوله أو رغْبته في البقاء معها يُعَلّمهم ويَلتقي بإناثهم وذُكورهم يُحْيُون ذلك معاً، أو كان صاحِب عملٍ ووظيفة، وكذا لو كان مثلاً في يوم عاشوراء - مع وجود القَدر الوافي بأداء الواجب الكفائي في حالات وجوبه - مجْبَراً أو مضطَرَّاً للكَون على رأس العَمَل، أو كان هنالك مَجلسٌ ثَرِيٌّ بالعِلم يُبَث لا يُفَوَّت ويَستفيد منه أَكثَر ولا يُمْكِنه حضوره لِبُعْده مثلاً، فمَع أنّ وسائل العصر أَتاحت اليوم حِفْظ كل شيء، إلا أنه مثلاً لو لم يَستمعه الآن لن يَستمعه فيما بعد؛ صار الأَولى له استماع هذا المجلس وتقديمه على الحضور المباشر للمجلس القريب منه المتمكّن مِن حضوره..، هذا كله في الأحوال التي ب ”عنوانها الخاص“ الواجب حضورها فيَجوز له التَّخَلُّف عن الحضور حال وجود الحضور الكافي لِامتثال الوجوب الكفائي تماماً كما هو في غيرِها مُطْلَق العِنَان وإن افتَقَد أَجْرَ الحضور العظيم وفوائدَه الفائقة على جميع الأَصْعِدة وثَوابَه الهائل؛ إذ الحضور ليس كالسماع من وراء الأَستار والحُجُب؛ فالحضور له آثار كثيرة جداً وعظيمة فائقة مفقودة حتماً في الاستماع من وراء الشاشة وبالأجهزة؛ أَذكر لك منها:
أ - أنّ الحضور المباشر فيه نَفَحات إلَهيّة خاصة تُنْتَفَح مِن العالِم على السامع، هذه النَّفَحات يَفْهمها الحاضر والمُجَرِّب للحالتين تماماً كطالِب العِلم الذي يَستمِع للدروس العِلمية من الأَشرِطة والأَقراص وطالِب العِلم الذي يَتَلقّى مباشرة مِن العُلَماء، فذاك ليس كهذا.
ب - أنّ الحضور المباشر يوجِد حالة من التَّلاقي بالمؤْمنين ونَيْل فوائد التلاقي بهم والأَجر العظيم من ذلك.
ج - أنّ الحضور المباشر يوجِد التعارف الطَّيِّب، والتعارف الطَّيِّب منافعه الدنيوية والأخروية كثيرة لا يستهان بها.
د - أنّ الحضور المباشر يَبعث على الهَيَجان والتفاعل أَكثَر سواء في المَراثي أو الأفراح.
ف - أنّ الحضور المباشر يُشَجِّع على التَّراصّ والتَّآلف والتَّكاتف، وهذا له مُعْطَيات وآثار بالِغة للداخل الاجتماعي والخارج العالَمي؛ منها إعطاء طابِع لِمِثالِيّته والاحتِذاء به وعدم إمكان اختراقه.
ه - أنّ الحضور المباشر علاج نفسي دافِع لآثار الوحدة القاسية، ويَختزِن في النفْس طاقة هائلة تَكفي لِحِماية ووِقاية النفس عن مخاطر هذه المَشاعِر حالاً وفي الأيام القادمة.
ي - أنّ الحضور المباشر يَجْعلك تَظْفر بالبَرَكات المادية المؤثِّرة على جسدك وجَوانِحِك؛ كبَرَكات المشارَكة في تناول طَعام المؤْمنين وما شابه..
فهذه الفوائد النّازِلة والآثار الجَسيمة الهائلة كما تلاحِظ فائِتة غير موجودة في الاستماع بالأجهزة ومِن وراء الأَستار؛ فاغْتَنِمْ أيُّها السالِك اللَّبيب.