منهاج السالك الحسيني «10» توصيات للمستمعين عامّة
فأول التوصيات كان الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر في الغرض وتحديده. و2 - تشخيص الغرض. و3 - توجيه الغرض. و4 - الإخلاص في الغرض. والإجابة على التساؤل: هل للإخلاص حدود وتفاصيل يمكن معرفتها؟ و5 - السَّير نحو تحقيق الغرض. وكيفيّة الضَّبْط.
وثاني التوصيات كان التزود من المجالس قدر الإمكان. وثالثها كان اختيار أفاضل المجالس واجتناب الشبهات. وقد مضى منه الإجابة على تساؤل: لِمَن نَستمِع؟ وهل نَقتصِر على الحضور لجهة محدَّدة من الخطباء والمحاضِرين..؟ ثم أشرت إلى وجود مَصائد شيطانية كثيرة تَنتظِر السالِك على طريق التَّحقُّق عن الخطيب اللائق للاستماع والتعلم منه؛ بعضُها واضح بأبسط تَوَجُّه أو بشيءٍ مِنه، وبعضُها يَحتاج لِتَوجُّهٍ كثير، وأنني أَتعرض هنا لاثنتين منها، مَضَتِ الأولى وفيما يلي:
قد يَحضُر إنسان لمَجلس القراءة والعِلم مستمِعاً، ويَكون هذا المستمِع لديه بعض المعلومات المسبَقة، لكنه عندما استَمع للقارئ وَجَد أنه مخْطِئ فيما يقول نَظَراً لتَعارُض قوله مع ما عنده من مَعرفة؛ فيَحصل لديه رَدّة فعل يَنتج عنها نفورٌ وإسقاطٌ لكلِّ تاريخ ذلك القارئ على أنه مُبَلِّغ قليل العلم وليس أهلاً لأن يَمتطي مَنابر التعليم فيُضِله ويُضل الناس بجهله؛ بالتالي يقاطع مَجلسه وربّما شَهَّر به بين الناس إما بِداعي نفس هذا النفور النفسي أو بالدَّواعي الأخرى مِن قبيل حِماية الناس مِن جهْلِه وإرشادهم لاستماع غيره، مع أن هذا القارئ اجتَهَد ولا يَظهَر عليه أنه يَقصد تعليم الناس خطأً، بل وقد يعمِّم هذا المستمِع حُكْمه هذا على الخُطَباء كأن يقول: إن الخطباء جهَلة يتكلمون دون علم وبغير فهم.
لكنّ هذا المستمِع النَّافِر المسكين لم يَلتفِت إلى أنه واقعٌ في مِصْيَدة حاكَها له إبليس فاصطاده بها وغَلَبَه مُمَرِّغاً أَنْفه في وحْلِ الضَّلالة؛ فهو لم يَكُن يَدري أن الشيطان أراد أن يَحجب عنه طريق النُّور والخير؛ فمَجلس العِلم فضلاً عن أنه يُراد لغايات وعوائد كثيرة مهمة غير التعليم - والتي منها الذِّكرى والتَّذَكُّر - يراد أيضاً للتعليم، وإن كان التعليم هو الطابِع الأبرز فيه، وما دار مداره فهو من ثمرات نَصْبِ مَجْلِس التعليم وإقامته.
وهذا المستمِع سواء افترضناه متعلِّماً من عموم الناس أو مثقَّفيهم من ذوي التحصيل والمَعرفة بدرجةٍ ما أو غيرهما؛ فهو في كل الأحوال مسكينٌ لأنه - لِسوء تقليبه الأمور وعواقبها - أَغفَل حقيقة كبرى مضافاً للفوائد السابقة المَرجوّة من هذه المَجالس؛ وهذه الحقيقة تَكمن في غفْلته عن أنّ العالِم أو الفقيه - فضلاً عمّن هو أدنى منه - ليس هو ذلك الشخص الذي يَعْلَم بكُلِّ شيء؛ إنما الفقيه والعالِم - كما عَبَّرتِ الروايات - هو ذلك الشخص الذي يَقِلُّ خَطَؤه ويَكثُرُ صوابُه؛ أما أنه لا يُخْطِئ فلا؛ فإنّه حتى الملائكة لا يَعْلَمون كلَّ شيء رغم قربهم من الله تعالى وعلو أقدارهم حتى أنهم لمّا قال لهم الله تعالى:
﴿أَنبِئُوني بأَسماءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُم صادِقِينَ * قالُوا سُبحانَكَ لا عِلْمَ لَنا﴾[البقرة 31 - 32] وإلا لو كان الإنسان يَعْلَم بكلِّ شيء لَخَرَج مِن مَقامه البشري المعتاد إلى المَقام الأنبيائي المقترَن بالعِصمة، بينما الأمر ليس كذلك؛ لذا ورد أنه إن اجتَهَد فأَصاب فله أجران أجرُ اجتهاده وأجرُ إصابته، وإن اجتَهَد فأَخطَأ فله أجرٌ واحد هو أجر اجتهاده؛ فمع أنه أَخطأ لكنه رغم ذلك له أجر، بينما هذا المسكين سَقَّطه مِن عيْنِه وأَنهى تاريخه وربما وَقع فيه ودَنَّسَ سُمْعته بالسّوء؛ فهو واقعاً لم يَحْرمه وإنما حَرَم نفسه التوفيق والخير بخديعةٍ أَحْكَمَها له الشيطان غابت عنه.
ومادام العالِم يُخْطِئ، إذا تعامَلنا على هذا المنوال؛ فيجب أن لا نَستمِع لأحد وأن نُسْقِط الثقة بالجميع؛ وبهذا نَكون حَقّقنا أَجْسَمَ هدفٍ لإبليس، فما من غايةٍ ونَصْر لهذا العدوّ الرِّجس أَعظَم مِن أن يَحْبِس الناس عن أهل العلم والعلماء الذين هُم وسيلة ضرورية من وسائل حِيازة العلم والمعرفة؛ لذا ورَد في صحيحتَي ابن أبي حمزة وسليمان بن خالد في فقد العلماء «إذا ماتَ المؤْمنُ الفقيه ثُلِمَ في الإسلام ثُلْمَةٌ لا يَسُدُّها شيء[1] . و: ما مِن أَحدٍ يَموتُ مِن المؤْمنينَ أَحَبَّ إلى إبليسَ مِن موْتِ فَقيه[2] »، مع أن هذا المستمِع هو بنفسه ما يُدريه أنّ ما لديه هو الحق الذي لا غُبارَ عليه، ربما كان ما لديه هو الخطأ وما قاله المتحدِّث هو الصواب إلا أن يَكون متيقناً منه عن دِراية تامة لا عن الْتِقاطٍ سالِفٍ من جهةٍ أخرى وما أَشْبَه، بل ما أَكثَر أن يَتعلَّم الإنسان من الخطَأ أو الشك حيث يَبعثه ذلك على التحقيق أكثر بعد أن كان راكِناً لمعلومِه الذي كان يَحسبه نهاية الحقيقة والحق الأَجْلى الذي لا تَدنوه رِيْبة؛ فإنّ الشَّك العِلمي - بمعناه الأعم الشامل للاحتمال والظن والشك - هو الجَوهر للحرَكة نحو الطَّلَبِ المَعرفي؛ فهو العُنصر الأول الدافع بالإنسان للتفكير والتجريب والاكتشاف؛ وما ذلك إلا لأنّ العِلم لا يَدفع النفْس للحركة نحو التعلم واكتشاف الحقائق؛ إذ حسب الفَرض هي عالمة بتلك الحقائق فبحْثُها عنها تحصيل للحاصل وتحصيل الحاصل مستحيل وقبيح فلماذا تَبحث عن تلك الحقائق المعلومة لديها إذاً؟!
وأيضاً الجهل بالشيء كذلك لا يَدفع النفس للحركة نحو التعلم والاكتشاف؛ إذ حسب الفَرض هي غافلة كلّيّاً عن ذلك الشيء غير ملتفِتة إليه فكيف تَتعلَّق إرادتها به فتَبحث عما لا يَخطر على بالها أصلاً؟! لا يمكن؛ أما الشَّك فهو بفعل دَغْدَغَته القوية في النفس باحتمال وجود مَعرفةٍ ما في الأمر الفلاني بعد الالتفات الجزئي؛ امتَلَك الشّكُّ امتيازاً وقوة هائلة للتحريك وإنهاض قِوى النفس وتشويقها نحو التّوجّه للتنقيب واستكشاف ما تَحتمِل وجوده وخفاءه عنها؛ لذا فإنّ الشك العِلمي عند الإنسان هو المحرِّك الأوحد للاكتشاف فهو باب العُلوم الإنسانية والمَعرفة لدى عموم البشرية الأدنى مَراتب عن الأنبياء، تماماً كما أنّ الشّك النفسي المنطقي أَصْلٌ مِن أُصول الحَذَر.
هي أنّنا نَحضر مَجالِس التعليم لا لأجل أن نَتلقّى فحسب، بل لأجل أن نَتفكَّر فيما نَسمَع ونَبحث عنه أكثر ونتدارسه ونتباحث فيه إلى أن نَصِل للواقع الحقيقي عن إقرارٍ دَلاليٍّ متماسكٍ رفيع؛ فإنّ الحقيقة المُطْلَقة لا يمتلكها أحدٌ منّا، والله تعالى إنما يحاسبنا بما لدينا من اليقين والاطمئنان مَنطقي المَنشأ مَنطقي المبرِّرات، ونحن إذا قَدَّمنا أهل العلم للكلام والتحدّث؛ فلأنهم الأكثر قُرْباً من الحقائق بالتَّفحيص الذي بَذَلوه وأَكثَر قدرة على إثراء اطّلاعنا وتكثير ثقافتنا وتزويدنا بتجاربهم المَعرفية العقلية والجَوانِحيّة والعملية الجَوارِحيّة؛ لذا عليك أيها المستمِع العزيز كي توفَّق للتّزُّد من هذه المجالس المباركة أَكثَر فأَكثَر - مع اختيار أفاضلها وعدم غُفول مَنافعها الأخرى - أن تَتزيَّن بالتواضع فإنه «اثنان لا يَتعلَّمان: خَجول ومتكبِّر»، وأن تَفتح آفاق قلبك سعةً ووعياً واحتراساً عن الأهواء والشيطان الرجيم ممتلِئاً نَشاطاً غير متكِئٍ في كلِّ حالٍ على غيرك ولا متشائمٍ مِن الخطأ ولا متغافِلٍ عن كثْرة الصَّواب فيما تَسمعه لِصالِح ذلك الخطأ الجزئي فإنّ هذا السلوك ليس من العدل والإنصاف.
نعم؛ لو كان المتحدِّث كثير الخطأ، أو كان يتكلّم بالخطأ دون تحقيق وتحضير وعن جُرْأة، أو كان يُخْطِئ فيما لا يَليق بقدْره العلمي الذي وَضَع نفسه مَوْضِعه فوق ما يناسِب شأنه، أو كان المستمِع له من أهل العلم وقد سَلَف له أن وجَّهه في المسألة وأَحْكَمَ له البُرهان فكابَر عليه؛ فهنا لا ضَيْر في مقاطَعته بعد الإرشاد الوافي والنّصْح الكافي والنَّقد المتزن المتناسب النافع والبَنّاء، سواء له أو احتِرازِيّاً لِغيرِه، بل يَتعيَّن ذلك دَفْعاً لغائِلَته ومَناكيرِه وشَجباً لباطله وقَطْعاً لطريق الفُجور وحِماية للمجتمَع وذَوْداً عن تَكاثُر السَّوَاد حوْله عملاً بالفرع الدِّيني الأكبر المُجْمَع عليه الكامن في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتَّلافي عن هَلَكات التَّخاذل والتهاون في العمل بهذا الفرع الإلهي الجَسيم؛ فإنّه ما أَعظَم المُرْتَقَ الذي ارتقاه؛ قال تعالى ﴿ولا تُطِعْ مِنهُم آثِماً أو كَفُورا﴾[الإنسان 24] وقال عَزَّ ذِكْرُه: ﴿يا أيُّها النَّبيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ واغْلُظْ علَيْهِم ومَأْواهُم جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصير﴾[التوبة 73]، وروى الشيخ المعَظَّم الصَّدوق أعلى الله مقامه قال: حدَّثنا أبي رضي الله عنه عن عبد الله بن جعفر الحميري عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه الباقر عن آبائه أن علياً قال: «إنّ في جهنم رَحى تَطْحَن [خمساً][3] أفلا تَسألون ما طحْنها؟ فقيل له: فما طحْنها يا أمير المؤمنين؟ قال: العلماء الفَجَرة، والقُرّاء الفَسَقة، والجبابرة الظَلَمة، والوزراء الخَوَنة، والعُرَفاء الكَذَبة. وإنّ في النار لَمَدِينة يقال لها: الحصينة أفلا تَسألوني ما فيها؟ فقيل: وما فيها يا أمير المؤمنين؟ فقال: فيها أيدي الناكِثِين» [4] .