آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

منهاج السالك الحسيني «9» توصيات للمستمعين عامّة

السيد أمين السعيدي *

فأول التوصيات: الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر في الغرض وتحديده. و2 - تشخيص الغرض. و3 - توجيه الغرض. و4 - الإخلاص في الغرض. والإجابة على التساؤل: هل للإخلاص حدود وتفاصيل يمكن معرفتها؟ و5 - السَّير نحو تحقيق الغرض. وكيفيّة الضَّبْط.

وثاني التوصيات: التزود من المجالس قدر الإمكان. وثالثها: اختيار أفاضل المجالس واجتناب الشبهات. وقد مضى منه الإجابة على تساؤل: لِمَن نَستمِع؟ وهل نَقتصِر على الحضور لجهة محدَّدة من الخطباء والمحاضِرين..؟ وفيما يلي:

مَصْيدتان شيطانيتان:

على هذا الطريق هنالك مَصائد شيطانية كثيرة تَنتظِر السالِك؛ بعضُها واضح بأبسط تَوَجُّه أو بشيءٍ مِنه، وبعضُها يَحتاج لِتَوجُّهٍ كثير، وهنا أَتعرض لاثنتين من تلك التي غالباً حسب تجربتي الوَضيعة وما عاينتُه تَكون شديدة الخَفاء على كثيرين عسى أن يَجِد فيهما إخوتي ما يَنفع:

المَصْيدة الأولى «على صَعيد مَسار الشأن الحَياتي»:

ما من شيء نراه في وجودنا إلا وله مَنشأ منطقي ومُثُل عُلْيا يَرتكِز عليها تُظَلِّله ظِلَّ الحقيقة للمِصْداقِ والصُّورة المطابِقة لها، وحتى الفكرة الخطأ، فهي نتاج مرتكَزٍ منطقيٍّ أَلَّفَها، عنه تبلورَت مِنّا أو من الغير، في ذواتنا أو أمام نَواظِرنا.

وفي كل ساحةٍ عِلمية مُحتَدمة بالتيارات الفكرية والتَّعدديات العقلية والدينية والإنسانية العِرْقية والعُرْفية الثقافية والفئويّة، لابُدّ مِن نُشُوْبِ صِراعاتٍ مُحْتَدمة وتَغايرات متضادة؛ فالتضاد فرْعُ الاختلاف، والاختلاف فرْعُ التضاد؛ فهما مفهومان متضايفان؛ متى فَرَضْتَ أحدهما في ذهنك حَضَرَ الآخر، وطالما كانتِ الساحة العِلمية والحياتيّة مَعرفياً وثقافياً وعِرْقيّاً أكثر تضاداً كلّما احتدم الصِّراع واتَّسَع، وكلما اتسعَ الصِّراع أُثْرِيَتْ مَنابع الإنسان ومُكتسَباته ومَعرفته ومَكاسبه، وكلّما أُثْرِيَتْ كلما أَخَذَتْ عَجَلة التقدم والنمو نحو البُزُوغِ تشعُّ بمَفاتنها الجَماليّة ورَوْنقها الفاخِر وضيائها المستنير والمنِير ولذائذها الشّيّقة؛ هنالك يَكون الإنسان مِصْداقاً أَجْلَى لقوله تعالى: ﴿اقرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَق[العَلَق 1]. يَبقى أنّ هنالك بُرُوزات نراها على السطح، وتَكون ذات صَدَمات مَعرفية قويّة لا يَحتملها الإنسان عادةً، مع أنه يَنبهِر بها أيضاً كتلك، لكنها لأنها تمس صَميم كيانه الإنساني؛ لذا يَتوجع منها ويَنفر ولا يَجِد فيها تلك اللذة. وهو حقّاً مُحِق وإلا لاتَّصَف بالفَرعَنة والجَلافة والقسْوة وخَرَج عن حَدِّ الحسِّ الإنساني إلى الحِس البَهيميِّ الإجرامي الذي لا يَتوفَّر إلا في سِباع الغابة ووحوش البراري الغير مستألِفة ومَن اقتَرَفوا عَظائم السيّئات الآثمة وبات حقّهم عند انغماسِهم في المجتمعات الأليفة والأُمم الإنسانية: الأَقفاص والقصَاص.

هنا لن أتحدَّث عن الوجه الثاني؛ لأنني أيضاً مُبتئِسٌ منه ولا أَود أن أُدَنِّس به هذه الصَّفَحات؛ حيث لن تَجِد البَشَريّة تَفَسُّخاً يَتَجَسَّد فيه النَّجَسُّ النفسيِّ والشيطانيِّ أَسْقَطَ وأَتْعَسَ منه، فحاله مع وضوحها لكل إنسان وصُورَتها البَلْهاء ليست بحاجة لتضييع الوقت في وصْفها وإنهاك الأَنامل، فليس مَوضُعها إلا القَسْوة القاسية التي قَسَت وتَقسو بها على أبناء أبيها الواحد آدم ورَحمها الواحد حوَّاء، فهل السَّفيه يُحاكَى والأحمَق يُجارَى، وهل السَّفَه يَحتاج لإفصاح والحَمَق يَحتاج لإيضاح!؛ فافْهَمْ.

الوجه الأول؛ وأُطْلِق عليه ”وجْه القلم الإلهي“ أو ”وجْه القارئ العُقَلائي“، هذا الوجه البَريء للإنسانية، مَهما أَخَذَ طابعاً متلوِّناً بأصباغه المعتدِلة؛ فهو مالِكٌ لكلِّ أوصافِ المُثُل العُليا ويُشَكِّل رَسْمة فنّيّة طبيعية متجاذبة متناسقة. فلْيُبْدِع فيه الإنسان كيف يشاء ضِمن ضوابه التي ارتسَمها مقدار فهْمِه المتوالف مع دائرة المألوفِ المحترَم يَعْمر الأرض ويَعْمر الذات ﴿هُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واستَعْمَرَكُم فيها[هود 61].

وفي المقابِل هنالك شريحةٌ مِن المتلَقِّين، مسَاحتُها تَشتمِل غالباً على العامّة وكثْرة مِن المثقَّفين وغيرهم، هذه الشريحة الكبرى عندما تبْصِر أو تَلتفِتْ إلى هذه التضادات الغائبة عنها تَحصل لديها انتكاسة نفسية فَظِيعة بالغة الإثارة، ولأنها توجِد انتكاسة خَفِيّة الآثار شديدة الأهوال أَخُّصها بالذِّكر وأقف عندها مَحبَّةَ أن يَحذَر إخواني مِن مَخاطِرها على وجودهم ومستقبَلهم لا أَقصد بها توهيناً أو إقصاءً لجهة. فعلى سبيل المثال:

عندما يَتعرَّف الناس على حقائق أهل العلم والحوزات وما ماثلها من المدارس الدينية الأخرى، أو عندما يَتعرَّف شخص على أنّ فلاناً العارف الذي كان لسنين ممتدة يقدّسه لم يَكُن إلا شخصية مُتَوارِية خَلْف أستار الدِّين وعقول المستضعَفين، أو عندما يَذهب شخص لطلب العِلم فيَجِد طَلَبة علمٍ أَسبَق منه يَتغيّبون عن الدروس أو ينامون أثناءها نَومة المعتاد أو يَتركون كتبهم في أماكن الدرس أو في زاوية من زوايا المدرسة العلمية تماماً كطلاب المدارس الذين يَتركون كتبهم في دُروج طاولات الفصل المدرسي، أو يُدْمِنون التدخين أو يَبحثون عن المال أو لا يذاكِرون دروسهم أو يَدْرُس بعضهم في مَرحلة المقدِّمات والسُّطوح درساً واحداً فقط وفي هذا الدرس يَدْرُس كتاباً يَستغرِق في دراسته مدة خمس أو ست أو حتى سبع سنوات، أو أنّ الحوزة تعطي لطلبة العلم راتباً إقطاعيّاً بحيث عندما يَحين وقت المُرَتَّب يَصُف الطلبة صفوفاً ممتدة في الشتاء والصيف وتحت المطر وأمام أشعة الشمس في كل شهر ولربما في بعض الأوقات لأكثر من يومين من كل شهر لأجل أن يَستلِم الطالب مِن صَفِّ كلِّ مَرْجِعٍ عشرة ريالات أو ربما أيضاً خمسة ريالات وقد تَزيد وقد تَنقُص، أو عندما يَتعرفون على شدة طبائع العالم الفلاني بعد أن لم يَكُن لهم سابق جلوسٍ معه، أو يَتَكشَّف لهم خلافٌ أو جَدَلٌ بين فقيهين سواء كان شخصياً أم عِلمياً، وغير ذلك من الحقائق التي لا يُمْكِن التّعامي عنها وهي تَظهر لهم مِن هنا وهناك، مِن المتحدِّث الفلاني أو الخطيب الكَذائي أو الكاتب الفلاني أو تَظهر لطالِب العِلم المستجِد..؛ فإنّ الكارثة تَقَع على نفوس أفراد هذه الشريحة بالانتكاس والابتئاس، مع أنّ هؤلاء الطَّلَبة أو العلماء بشرٌ مِثلنا، لهم أسبابهم ومبررات أتطرَّق لها إن شاء الله في رسالة أو سِياقات أخرى تَلافياً للخروج عن سِياق الكلام هنا، وهي أسباب ومبررات قد نَقبل بعضها وقد لا نَقبل بعضها، وهذا الابتئاس - للأسف - يَلِد نُفوراً نفسياً، وليس أي نفور، وإنما يلد نفوراً نفسياً قاتلاً يصل في بعض حالاته إلى شَطْب جهود العلماء من النفس ككل أو اللجوء للتّيارات الأخرى أو الإلحاد أو حتى ربما الانتحار العِلمي أو الوجودي كما رأينا ونَرى، وليس مِن الغريب أن يَنتج عنه صِراعات مماثِلة لداعش ولكن على الطَّرَف النَّقيض، وهي ما يُمْكِن أن نُعَبِّر عنها الدَّعشَنة اللادِينيّة في قِبال الدَّعشَنة الدِّينيّة.

هؤلاء الانتكاسِيُّون، قبْل أن يَصِلُوا للحالة السُّخْرَوِيَّة وواقع السُّخْرَوِيِّين أو لحالة قُطّاع الطُّرُق أو لحالة الضَّياع والسَّفاهة والحَمَق والمشاغَبة والجرائم الآثمة التي لا تَستحق إلا الأقفاص والقصَاص، هُم في مَراحلهم الأولى يَحتاجون للمُصالَحة بالاهتمام الباكر والمُصارَحة الشَّفّافة الصادقة تماماً حتى وإن أَلْحَدوا عن عِلّة لا عن خيانة، فكل علّةٍ فَرْعُ فعلٍ منطقي مُحِيطٍ بها، ولا مجال والعصر عصرُ النَّهْضة والفَضيحة ”عصرُ لا تَخْفَى خافية“، لا مجال لِوَأْدِ المستورِ الأَزَلي لِيَضَل مستوراً سَرْمَديّاً؛ فإنّ هذه الحالة باتت من الحالات المُتَفَشِّيّة التي تَحتاج حقاً لعلاجٍ شَفّاف وملائِم وإقناعٍ يتَكَلَّل بالنَّجاح، والمبلِّغين وحَمَلة قَبَس العلم والتعليم - جزاهم الله جميعاً خيرا - لا يَسوؤهم أن تُخْضَع نفسياتهم المتغايرة قوَّةً وضعافاً وأحوالهم ومستوياتهم المتفاوِتة نقصاً وكَمالاً فتُوضَع للتحليل والنَّظَر بل ويُنْظَر في احتياجاتهم الطبيعية كغيرهم من البَشَر الذين يشاركوننا الحياة سيّما وأنّهم يَتصدَّون لمهمّة كُبْرى وحسّاسة تَكمن في تربية المجتمع بِرِمَّته؛ إذ الاستماع للمَنابر مفتوحٌ لأيِّ أحد وليس كالفصول الجامعية أو المدارس التخصصية التي تُختص بفئات محدَّدة مدروسة ومنَظَّمة.

وأنت أيها المتحقِّق المُريد للعِلم الباحث عن المَعارف النبيلة، عليك أن تَكون على استعدادٍ تام لسَماع أي حقيقة، وأن لا تَكُن إنساناً إقصائيّاً ومتمرِّداً تَحتدِم بالصِّراعات وتَنسلِخ من المَبادئ وتَتنكر للمُثُل وتضيع الهدف النبيل فتكرِّر ذات الأخطاء التي قَرَعَتْ وجْدانك ووَخَزَتْ أَفْهامك فتمارِس نفس السّوء بنفس الشكل أو بشكلٍ آخر دُون أن تَشعر متحاشِياً أَواصِر التبادُليّة والاحترام المتبادَل في حدوده الاعتداليّة. إنّ طريق العِلم لأنهم مَشوبٌ بالعَقبات والغَرابِل الكثيرة استَحقَّ أن يَكون طريق ذات الشَّوْكة، ولأنه طريقٌ ثمين فإنّه لا يُنال بسهولة، الجوهرة لا تباع بتُراب، والثمين يَطلب الثمين، كما أنّ لهذا الطريق مَراتب ودرجات، كل مرتبة لاحِقة أَعظَم وأَقدَس من سابِقتِها وتَحتاج لنفسٍ متعاظِمةِ الوعي وإلا لم تَظْفَر بها.

 المَصْيَدة الثانية:

... تأتي إن شاء الله تعالى.

ماجستير فقه ومعارف إسلامية وفلسفة ، مؤلِّف ومحقِّق وأستاذ حوزوي.
- موقع السيد أمين: www.anbyaa.com