آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 9:31 م

فلسطين.. من الانتداب إلى النكبة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في أواخر شهر سبتمبر مرّت الذكرى السبعون على انتهاء فترة الانتداب البريطاني عن فلسطين، لتبدأ مرحلة أخرى بالمشرق العربي، ولتتحوّل لاحقاً إلى صراع مرير بين العرب، الذين شاءت حقائق الجغرافيا والتاريخ، أن تجعل من فلسطين قضيتهم المركزية، وبين الصهاينة، الذين أرادوا جعل مشروعهم الاستيطاني الأوروبي، خنجراً مسموماً في خاصرة الأمة العربية، يحول دون تقدّم الأمة وتحقيق نهضتها. واستمر صراع الوجود، والإرادات قائماً بين العرب والصهاينة بأشكال مختلفة حتى يومنا هذا.

كان الانتداب البريطاني لفلسطين، هو أحد إفرازات الحرب العالمية الأولى، وتطبيق اتفاقية سايكس - بيكو بين البريطانيين والفرنسيين. وقد أعلن عنه، عام 1920، واستمر قرابة عقدين ونصف العقد. وفي 11 سبتمبر عام 1922، أقرّت عصبة الأمم الانتداب، على أساس وعد بلفور، غطت ما بات يعرف لاحقاً بفلسطين التاريخية.

ومنذ ذلك التاريخ، وتنفيذاً لمقتضى وعد بلفور البريطاني، الذي منح اليهود حق الهجرة إلى فلسطين، تمهيداً لإقامة وطن قومي لهم فوق أرضها، تضاعفت الهجرة اليهودية للأراضي المقدسة، على حساب السكان الأصليين. وبالقدر الذي تتضاعف فيه الهجرة إلى فلسطين، بالقدر الذي يتصاعد فيه الصراع بين ملاك الأرض الأصليين، والقادمين الجدد.

تحوّلت الصراعات لاحقاً، إلى ثورات وانتفاضات شعبية، من قبل الفلسطينيين ضد قوات الانتداب، والصهاينة المدعومين من قبل الانتداب. وكان الأبرز والأعنف بين تلك الانتفاضات الثورة التي اندلعت عام 1936، رغم غياب التنظيم والتدخلات الدولية، وبعض القيادات العربية، لكنها ظلت علامة مضيئة في تاريخ الكفاح الفلسطيني.

اندلعت الحرب العالمية الثانية، وخلالها لم تتبنَّ أي قوة دولية الدفاع عن قضيتهم العادلة.

وحدها حملات الإبادة، التي لحقت باليهود، جرى التركيز عليها، من قبل صنّاع القرار في العالم الرأسمالي، بما يتماهى مع وضع وعد بلفور قيد التنفيذ. وتم تصنيفها أبشع حملة إبادة في التاريخ البشري. وباتت تعرف منذ ذلك الحين، بالهولوكست، لتتحوّل إلى فرادة أخرى من فرادات دولة الاحتلال الصهيوني، المتمثلة في الحق التاريخي، والتفوّق العرقي. وكان ذلك أمراً طبيعياً، إذا ما تم وضعه في نطاق السعي البريطاني - الصهيوني المشترك لتأسيس دولة يهودية فوق التراب الفلسطيني.

لقد استثمرت القيادات الصهيونية هذا الحدث، ونصّبت من نفسها متحدثاً باسم اليهود في كل أنحاء العالم، وحين تأسست «إسرائيل»، نصّبت نفسها مطالبة بالتعويضات من الحكومة الألمانية، التي تشكلت بعد هزيمة النازية. ومارس الصهاينة، بحق الألمان عملية ابتزاز قلّ أن يوجد لها نظير في التاريخ.

ومن جهة أخرى خرجت بريطانيا العظمى من الحرب الكونية الثانية مثقلة بالديون، وعلى شفا حافة الإفلاس، فكان قرار حكومتها الانسحاب من بعض مستعمراتها، ومناطق انتدابها، ومن ضمن هذه المناطق الأراضي الفلسطينية.

تقدّمت الحكومة البريطانية، للجمعية العامة للأمم المتحدة، مبلغة عن عزمها الانسحاب من فلسطين، واضعة البلاد في عهدتها. وممهدة الطريق لصدور قرار التقسيم رقم 181، الذي صدر في 29 نوفمبر عام 1947. وقد أقرّ القرار المذكور بتقسيم فلسطين مناصفة بين اليهود الذين قدّرت الأمم المتحدة تعداد الحاصلين منهم على هوية فلسطينية، أثناء صدور قرار التقسيم، بنسبة لا تتجاوز ال 7٪ من التعداد الكلي للسكان. في حين كان الفلسطينيون، في حينه يمثلون أغلبية السكان. أما مدينة القدس، فقد وضعت تحت الحماية الدولية.

لم يقبل الفلسطينيون ولا القادة العرب بما تضمّنه قرار التقسيم، واندلعت فوراً الحرب العربية - «الإسرائيلية» الأولى، التي انتهت بالنكبة، واكتساب الصهاينة لأغلبية الأراضي الفلسطينية. وتسببت في تشريد أكثر من سبعمئة ألف فلسطيني من ديارهم، حيث نصبت لهم منذ ذلك الحين، مخيمات بالدول العربية المجاورة، في الأردن وسوريا ولبنان، في ظروف قاسية وبائسة، منتظرين يوماً تتحرر فيه أراضيهم، ويتمكنون من العودة إلى ديارهم.

ولم يكن ما حدث في حينه، خارج سياق التاريخ، والتخطيط البريطاني لتأسيس «إسرائيل». وفي هذا السياق، تشير يوميات الحرب، في أرشيف وزارة الحربية المصرية، كما وردت في كتاب الراحل محمد حسنين هيكل، «الجيوش والعروش - الجزء الأول» إلى أن الحكومة البريطانية، شجّعت فاروق، ملك مصر على الدخول في الحرب العربية ضد الصهاينة، استجابة لنداء، وجّهه عبد الله بن الحسين ملك الأردن.

بل إن تلك الوثائق تشير إلى ما هو أخطر وأبعد من ذلك. فقد تساهلت القوات البريطانية، التي كانت تدير قناة السويس مع الجيش المصري، في استيلائه على الأسلحة البريطانية من المخازن الواقعة غرب القناة. وسهّلت عبور الجنود المصريين شرقاً إلى سيناء، ومنها للأراضي الفلسطينية. وتشير يوميات وزارة الحربية المصرية، إلى أنه بعد دخول القوات المصرية إلى قلب فلسطين، قلبت بريطانيا سياستها رأساً على عقب، ومنعت الجيش المصري من عبور القناة، تحت ذريعة أنها ممر دولي من غير الجائز استخدامه في صراعات إقليمية. كما مُنع الجيش المصري، من قبل البريطانيين من الحصول على السلاح. وانتهت الحرب بهزيمة الجيش المصري.

أما على الجبهة الشرقية للحرب، فالوضع كان أسوأ بكثير. لقد كان القائد البريطاني غلوب باشا هو قائد الحرب في الجبهة الأردنية، وكان يوجّه العمليات العسكرية، ويعيد تركيب الخرائط بما يلحق الهزيمة بالعرب، ويؤدي إلى استيلاء الصهاينة على الجزء الأكبر من فلسطين.

لقد كانت هزيمة كبرى بحق العرب، لتتبعها معارك أخرى وصراع إرادات.