منهاج السالك الحسيني «8» توصيات للمستمعين عامّة
فأول التوصيات: الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر في الغرض وتحديده. و2 - تشخيص الغرض. و3 - توجيه الغرض. و4 - الإخلاص في الغرض. والإجابة على التساؤل: هل للإخلاص حدود وتفاصيل يمكن معرفتها؟ و5 - السَّير نحو تحقيق الغرض. وكيفيّة الضَّبْط.
وثاني التوصيات: التزود من المجالس قدر الإمكان. وثالثها: اختيار أفاضل المجالس واجتناب الشبهات. وفيما يلي الإجابة على:
هذا التساؤل كبيرٌ ومُهِمٌّ جداً؛ فهو من المَسائل الابتلائية الشائعة والشائكة في ظِلِّ الصِّراعات والتَّعدُّدِيّات، والتّموّجات والمنعطَفات التي تواجِه الإنسان سيّما المبتدِئ، سواء على المستوى المَصْلَحي والأَهوائيِّ الخاص بالنفْس أو مَصالِح وأهواء الآخرين، فالجواب عليه ليس بالأمر السهل؛ فهو يَحتاج مِن كل إنسان التَّدبُّر فيه جيّداً، والإجابة عليه إجابة واعية وواضحة باقتناعٍ كاملٍ دون تَساهُلٍ أو تَسْويف؛ ذلك لأن الجواب كفيلٌ بصَلاح مَنهجِ الإنسان أو ضَياعه؛ فإنْ وَقع على الجواب السليم واعتَنقَه عاملاً به صَحَّ نهْجُه واستقام سَيْرُه نحو الكمال والخير، وإلا فالعكس ينْتج خللاً ومَنهجاً ضَلالِيّاً وتَعصُّباً وعُنصريّة يتولَّد عنهما صِراعٌ نفسيٌّ خطير وإرهابٌ - والإرهابُ على أنواع - وتَمزّقٌ وفَتْك..، بينما جميع هذه المعاني المَخُوْفة البائسة ليست من الدِّينِ والهُدى والتَّديُّن والاهتداء.
ثمّ عندما نَتحدَّث عنِ الخطيب فلا يعني أنّ المقصود به ذلك المتحدِّث والناعي على المنبر فحسب، وإنما أقصد به عُموم مَن يَتصدى للمنبر الحسيني، سواء كان مُلْقِياً من هذا النّوع أم رادوداً ومُنْشِداً..؛ فأقول:
اختر الخطيب والمُحاضِر الذي يَحترِم عقلَك؛ والخطيب أو المحاضر الذي يَحترِم عُقول جمهوره والمستمعين هو ذاك الذي لا يتكلم كلاماً إرساليّاً بتلقائيّة، ولا يؤَدّي المهمّة ارتجاليّاً دون تحضيرٍ مسبَق، وعندما يَتكلَّم يشدُّ كلامَه بالدلائل والبراهين وبالصورة المتناسبة والوافية، ويَعمَل بما يَقول، وعندما يُناقَش يَتَّسِع صدرُه لمن وَضَعَ وقتَه بين يديه وسَلَّمَه عقلَه ومَعقولَه، مستعِدِّاً لا يَتَحَرَّج مِن المتحقِّق مادام يَنْفح عن دليل، بل يَنْتَشِق سروراً وتشجيعاً ويَستلِذ إن كانت غايته فعلاً الإرشاد والتفهيم والتقويم وبِنَاء مُبْتَغِيْه، هذا الخطيب هو الخطيب الذي يَحترِم عقول الآخرين.
في الصُّرُوح العِلمية الحُرّة إذا أراد طالب العِلم اللَّبيب أن يَدْرُس مادّةً أو كتاباً عِلميّاً لدى شيخٍ ما؛ فإنه أولاً يبادِر بالتَّحَرِّي يَسأل عنه مِن عِدّة أشخاص، وليس من أي شخصٍ كان، فيَسأل عنه مِن رفاقِه تارة، ومِن الطَّلَبة الذين سَبق لهم أن دَرَسوا لديه، ويَسأل عنه مِن الناحية الأخلاقية والعَمليّة ومِن الناحية العِلميّة ومِن الناحية الفَنّيّة، وعندما يَبْلُغ طالِب العِلم - مثلاً - مَرحلة بحثِ الخارِج الذي هو أَعلى مَراحل الدِّراسة الحوزوية فإنه يَحضُر دُروس مجموعة من الفقهاء المجتهدين لِيُشَخِّص بنفسه أيّهم اللائق بأن يُسَلِّمه وقته الثمين ومجهوده ويَضع في يده بقيّة مِشواره العِلمي؟ أو بالتعبير الدارج يُسَلِّم لِحيتَه لمن؟ فهو يَتخيَّر الأستاذ المناسِب مِن خِلال هذه العملية الشخصية التحَقُّقية. هكذا تماماً ينبغي للمستمِع أن يَستظهِر بنفسه الخطيب المناسِب؛ ففي بداية مستواه المَرْحَلي الأول يَسأل ويَستفسِر، وفي مَراحله المتقدِّمة يعايِن ويَتحقَّق بنفسه ووجدانِه مع تمام الحذَر من الاغترار والانخداع.
فإذا أَخَذتَ طريقك نحو الاستظهار والتشخيص؛ فَعَلَيك أن تَتجنب عُبّاد الشُّهْرة مِن الشَّكل المذموم والذين يَغلب عليهم طابع التشاؤم والشعور السلبي الذي يُكَبِّلك بالخمول والفُتور ويجعلك محكوماً لمشاعرهم السوداويّة والذين لا شُغْلَ لهم سوى تسقيط العلماء وتشويه مَقاصدهم والتشكيك في أهدافهم، والذين أحاديثهم متكرِّرة لا جديد فيها ولا جَدْوى، ومن لا يحقِّق أقواله قبل طرحها وبَثِّها، والذين ابتَلَت أنفسهم بمرض النَّقْد؛ فالنَّقْدُ أمرٌ مهمٌ وضروري، لكنه إذا وصل إلى ما يمْكِن أن نطْلِق عليه مسمّى ”النَّقْدْفُوبيا“، وصل إلى حالة مَرَضيّة؛ فإنه يَتحول إلى داء فَتّاك مُنْهِك يَقضي على كل شيء، وأول ما يفتِك به الهويّة والتُّراث، اللَّذَين لا يُثَمَّنان بثَمَن.
ابحث عن الممتلئِين حيوية ونشاطاً، الذين تَشعر بالاستماع إليهم أن طاقاتهم الجَيّاشة تَنتقِل إليك وتُحِس ببَرَكاتهم في روحك وجوارحك وأدائك، فكلّهم طموحٌ يَشحن شَهيّتك المَعرفية نَهَماً وتَتزوَّد منهم ما يشعرك بلذة العلم ويَشْحَذُ هِمَّتَك بالاندفاع والعَطاء والهَيجان والعمل في لحظاتك وأيامك القادمة، فالذي لا تَعثر منه على أثرٍ تغييريٍّ إيجابيٍّ بارزٍ في نفسك ومستقبلك ولا يَمتلِك أن يوَلِّد فيك هذه الطاقة فاقِدٌ ذاتِيّاً لها لم يُوَلِّدها في نفسه فكيف يولِّدها لديك؟؛ لهذا غالباً تَجد تلامذة الأستاذ النَّشِط البارع مِثْله تَنغمِس فيهم صفاته وتَبرز عليهم فيَكونوا مؤهَّلِين لحمل مِشْعلِه ومواصَلة المَسِير بالإبداع المتجدِّد والعطاء المتنوِّع، بينما الذي لا يُوَلِّد فيك هذه الطاقة فهو غالباً - أقول غالباً لا دائماً - لم يُوَلِّدها في نفسه، فلَم يَنفعه عِلمه ولا تُؤثِّر فيه أقواله؛ وما ذلك إلا لأنّ النفس البشرية باعتبارها كياناً واحداً في الجميع فهي مِن حيث استِقْطابِها الأَوَّلي تَطْبَع - فيمن قَدَّم لها ذاته وسَلَّمَها إيّاها - ما تَحمله من طاقاتٍ وتَمايُزات، إلا ما نَدَر وشَذ، فَلِكُلِّ قاعدةٍ نَوادِرٌ وشَواذ، اللهم إلا أن يَكون الطَّرَف المقابِل أرضِيّته غير مؤهَّلة تكوينياً - كالطفل الغير مدرِك - أو كيانياً - كالمُلَوَّثة نفسه بالشوائب المانعة عن التَّلقّي مَثِيل الشَّواغِل الذِّهنيّة أو كثْرَة الذُّنوب والمَعاصي - غاية الأمر أن المُرَبِّي القدير هو مَن يَعْرف عادةً مَكامِن النَّقص ومِن أين يُدْخَل إلى هذه المُلَوِّثات فيُنَقِّيها ويعالجها إن كانت تَقْبَل العلاج مادام صاحِبُها أَقْبَلَ عليه؛ فليس القُصور أو التَّقصر دائماً مِن المعلِّم؛ فالمَنْشأ أيضاً تارة قُصورٌ في نفس المتلقي أو تَقصيرٌ منه.
وليَحْذَر المستمِع المتحقِّق أن يَنخدِع بالحاسدِين والوُشَاة الذين يُشَوِّهون صورة بعض الدُّعاة المؤْمنين العاملين المتفوّقين؛ فإنه كثيرٌ ما تَنشأ هذه المصائب العُظمى لدى كثيرين بفعل اختلافاتهم الشخصية الخاصة البعيدة عن الجانب العِلمي العام فتَنسحِب على المسؤوليات العِلمية أو يَبتلي شخصٌ بمنافَسةٍ ما أو لأنه لم يَدْرُس مع فلانٍ في مَدرسته الدِّينيّة أو وفْق خُطَّتِه الدِّراسية فيَنعكس عليه مستقبَلاً بالسوء..!؛ فإنْ انخَدَع المتحقِّق بهؤلاء الحاسدِين والوُشَاة كان هو الخاسر الأكبر وصار العَصا التي تَضرب بغير إرادة؛ إذ ما أَكثر أن يَذهب على المتعلِّم مِن الخير الكثير بفعل أصحاب النفوس الضّيّقة الذين لا يراقِبون الله في أنفُسهم وينافِسون للضر ولا يَترفعون عن الوضيعة ولا يَتحلون بالمسؤولية ويُمدِّدون الخلافات العارضة إلى غير مَواضعها المستدامة ويُكبِّرون الصغائر فيَغرسون في هؤلاء الناشِئة الذين لَجؤوا إليهم لهدايتهم النُّفُور مِن العلماء أو مِن بعضهم دون سببٍ يُذْعِنه الناشِئ بنفسه وإنما فقط لأنه سَمع مِن فلان، وربما فلان أيضاً سَمِع مِن آخر، وتَستمر السِّلسلة طُوليّاً بِلا طائِل! والضَّحيّة هو هذا الذي حُرِم بفعل سَماعِه لرأيهم واتِّباعه لهم دون أن يُكَلِّف نفسه عَناء التحقُّق بنفسه! وربما ذاك الذي حَكَم لم يَفهم ما قاله المُلْقي فنَقل فَهْمَه الخاطئ وأشاعه بين هذا وذاك معتبِرَه الفَهْمَ الصحيح بينما الفَهْم مِن الأصل لم يَكُن في مَحَلِّه! وربما هذا الآخر أَشاع الأمر بِدَوره كالأوَّل فصار هو الآخر عالة أخرى واشِيَاً يَنقل هذا البلاء منه إلى غيره! وهكذا يَسير الداء ويَستشري في ”المجتمَع المُصادَفي“ قوَّةً وضعفاً حسبما تأتي به المصادَفات! يقول أمير المؤمنين :
«مَن أطاعَ الوَاشِي ضَيَّعَ الصَّدِق» [1] ؛ فإذا سمعت الثناء أو الذَّم اذهب تَحقَّق بنفسك، ولا تَتَّبَّع ما لا يَعنيك، ولا تَبْغِ غير ما يَنفع، ولا تَقتحِم عَورات الناس، ولا تَتكشف الأَستار وتَهتك الحُرُمات، فإنّه مَن تَتبَّع عورات الآخرين تَتبّع الله عورته، ومَن تَكَشَّف حُرُماتهم كَشف الله حُرُماته ولو في قَعْرِ داره. لماذا تَجعل مِن نُوْرِ العِلم ظُلْمةً عليك؟ فإنّ العِلم نور، لكن النور كما له كَمَالات نَورانيّة له أيضاً حُجُبٌ نَورانيّة؛ أَمَا تَرى البَرْقَ يَحمِلُ النُّور ويُضِيءُ الآفاق؟ فلأيِّ سببٍ يخيف أكثر النُّفوس؟ هل لأنه نورٌ يضيء أم لأنه فاتِك؟ فالنور شيءٌ جميل؛ أمّا البرق فهو بالتعبيرات المنطقية - مع ما يَحمِله مِن الفَتْكِ وطبيعةِ البَرْق - نورٌ مُشَكّك ليس كالضِّياء النَّوراني الخالِص المؤنِس للنفس وإن كان البرق في حقيقته مُفِيداً من جوانب أخرى أيضاً؛ فلا تَجعل من ضِياء العِلم ونَورانيّته حِجاباً ظلمانيّاً عليك فتَخذل نفسك ويَخذلك الله.
وإياك أيها اللَّبيب أن تَسير على نَسَقِ جهةٍ واحدةٍ ومَسْلكِها؛ بحيث لا تَحضر إلا لتلك الجهة وأَتْباعها ومُرَوِّجيها وتُغْلِق عقلك وقلبك عن الاستماع لمَن يَختلِف معها؛ فإنّ الشر الفكري كلُّه مطويٌّ في هذه المصيبة التي هي رأسُ المَصائب وآفة الآفات وأمُّ المَهالِك، وما سَلكَ مَنطِقها إنسان إلا هَلك، وما خَضع لها مجتمَعٌ إلا دُمِّر، وما اعتنقَتْها أُمّة إلا صارت للضَّياع المَقيت والتَّخلُّف المَرير، افتح أجراس قلبك وتلابيب عقلك للجميع واستمِع وابحث وتَفَحَّص طوال هذا العمر الثمين الذي مَنحك الله إياه لتُحقِّق في الحقائق وتَبْلُغ مَناقِبها، فأنت المَسؤول الأول أمامه تعالى لماذا اتَّبَعْت الرأي الكَذائي ولم تَتَّبع الآخر؟ فأنت كيف تَتفحَّص الضرورات دون أن تَطَّلِع على متغايراتها! وكيف أَمْكَن لك أساساً أن تَعتنِق دِين محمد والقُرآن والإسلام دون غيره لو لم تَكُن فَتحتَ أولاً سمعك وقلبك وعقلك له؟
وحتى مسألة ”إتلاف مادة الفَساد أو إتلاف كُتُب الضَّلال“ التي يَبحثها الفقهاء، فهي في حدود خاصة جداً، وليست أمراً عاماً يتعلَّق بالضرورات والمَعارف الآتية فيما بعْد مِن هذه الضرورات بعْد ثُبوتها، وإلا لماذا نعاتِب المُلحِد بعدم اطّلاعه على الفكر الإلهي أو اعتناقه؟ ولماذا نعاتِب المسيحي واليهودي والبوذي والياني وغيرهم لعدم نظرهم في الإسلام أو عدم اتّباعهم له؟! ولماذا نعاتب السُّني لعدم نظره في مَبادئ مذهب أهل البيت عليهم الصلاة والسلام أو عدم اعتناقه له؟ ولماذا نعاتب الشيعي بعدم نظره أو اتّباعه لمذهب أهل السُّنّة والجماعة..! أليس لأنّ استيعاب الآخرين ومُطالَعة ما لديهم وإخضاعه للبحثِ والتحقيقِ بصدقٍ واجبٌ على كل فرد؟ فما بالك بما إذا كان المتحدِّث أو الخطيب يَنتمي لنفس مذهبك ودائرتك الخاصة؟ كيف تَتجنب الاستماع إليه والنظر فيما يقول والتَّدبُّر فيه فتَقتصِر بنفسك على تيّارٍ محدَّد وجهةٍ خاصَّة تَستمِع إليها وحْدها دون غيرها! من أين عَرفتَ أن تلك الجهة التي اخترتَها هي المُصِيبة للحقيقة والحق وأنت لم تَسَع آراء الآخرين بالسَّمع والفَحص؟
كلُّ مَن يَقول لك استمع لنا فقط ولا تَستمع للفئة الأخرى؛ فهو إما شخصٌ مخادِع متكبِّر على هذه الحقيقة الجَليّة يَتعامى ويعميك عنها أو شخصٌ مغلوبٌ على أَمره يعاني مرضاً فكرياً وأَحْرَى أنْ يَلتمِس لنفسه العلاج لا أن يؤخَذ عنه.
أيها العزيز، رُوي أنّ «أَعْلَم الناسِ أَعْلَمُهم باختلاف الناس»؛ فلا تَخَف مِن تعريضك أفكارك للزَّلازِل والغَرابِل واستماع النَّقْد لِمَا لديك إنْ كنتَ تَمتلك إيماناً يقينياً به عن دليلٍ مَتينٍ راسخ فتَمتحِن مَدَى قوَّة أفكارك وسلامتها وتماسُكها، وإلا فإنّ الله تعالى لا يَرغَب منا بالعقائد المتزلزلة بهذه الصورة، كُن شجاعاً نَشِطاً دون مَللٍ أو كَلَلٍ ما حَييت، وتَحَلَّ بأخلاق الاختلاف واعْلَم أنه لُطفٌ ورحمة من الله تعالى للتّقدّم ولذّةٌ بشرية عُظمى لعشّاق المَعرفة، وأنه لو كان كل شخص يَختلف مع آخر عليه أن يلغيه لَمَا بقي مِن الخَلق أحد إذ لا يوجَد إنسان إلا ويَختلِف مع غيره، بل إنّ الإنسان يَختلِف أحياناً حتى مع نفسه، فهل يَتبرأ منها أو يَنتحِر بقتلِها؟
كُنْ على دِراية تامة بأنّ الله تعالى يحاسبك على يقينك؛ فإذا بَذَلْت مجهودك الجيّد فتوصَّلْت لحقيقةٍ تيقَّنتَ بها؛ فإنّ الله عز وجل سيتقبلها منك ولن يعاقبك عليها وإن كانت في الواقع خاطئة، بل لو عملت على خِلافها فحينئذٍ تَكون مستحِقاً لِنَكَاله وتَشنيعِه وعقوبته؛ ألا تَرَى أن الفقهاء - كل الفقهاء - يَنصّون على أنّه لو مثلاً اعتَقد شخص بصحة صلاة السُّنّي وبطلان صلاة الشيعي، فامتَثَل صلاة الشيعي بلا عِلّة مقرَّرة مقبولة في الشرع فإنّ صلاته تَكون باطلة وعليه إعادتها بالإتيان بصلاة السُّني حتى لو كان في عِلم الله صلاة الشيعي هي الصحيحة المطلوبة؛ ذلك لأنه نَوى العِبادة بِنِيّة لا يمكِن تَحقّقها؛ حيث تَقَرَّب لله بما يَعتقِد أنه ليس هو المقرِّب له عز وجل فعصاه بالإتيان بغير الصلاة التي اعتَقَد أنها هي التي أُمِرَ بها.
إنّ الذي يَحضر عفوياً في أي مَجلس أو يَحضر في المَجالس بمعيار الأقرب إلى داره غير ملتفِتٍ لكهذا تَوَجُّه، فحاله أَحسَن بكثيرٍ جداً من حال ذاك الذي تَخْطو قَدمه على وِزَانِ الانحصار بالاستماع لجهةٍ خاصةٍ محدَّدةٍ مُتحاشِياً الحضور لمَجالس غيرها. لكن هذا أيضاً لا يَعني مُجالَسة كلِّ أحد، فلستُ أَقصد أن لا نَنتبِذ البَطَّالِين والمنحرفين المتقلِّبين على الأعراف الإنسانية والعُقلائية..، حتى وإن تَلَبَّسوا بلباس العُلَماء ومَنطقِ العُقلاء؛ فإنّ - مثلاً - الخوَنة والظَّلَمة ومَن اتَّضَح لك انحرافهم بنحوٍ مُجْحِفٍ لا يُمْكِن تبريره، أو أُلَئِك الذين يَفتعِلون المشْكلات مِن لا شيء أو مِن الأمور التي لا يَنبغي أن يُكترَث لها أو أن لا تُعمَّم إلى خارج نِطاقِها اللائق بها؛ هؤلاء - لا رَيْب - عليك نُصحهم إن كنت أهلاً لذلك وإلا فجانِبْهم بأن لا تُكَثِّر سَوَاد الحاضرين لديهم ولا تُقَوّي شَوْكتهم، ومَن يَكْثُر خَطَؤه أو يَتَبَوَّأ مَقْعَداً عظيماً لا يَليق بشأنه عامداً ومكابِراً؛ فهذا الوقيعة فيه بعد فسوقه العام أَوْلى بل أَوجَب، ولكن دون تَجاوُزٍ مُخِل، وهذا قطعاً بخِلاف من لديه اختلافٌ معك في الفكر بناءً على دليل علمي ثَبت عنده، وبخلاف من يُعْمِل اجتهاده ويَكْثُر صوابه ويقل خطؤه ولا يتعمد ارتكاب الباطل أو يخطئ خطيئة خاصة مُتَلافِياً الفُسوق العام فهو مَحْقون السُّمْعة..؛ فإنه يُصار معه للاحترام المتبادَل والنقاش العلمي بودٍّ كامل، فضلاً عما لو لم تَكُن صاحب رأي وكنت مجرَّد مستمِع تريد التعلم والتّعرّف على ما لدى أهل الاطّلاع والرأي من أبحاث ووجهات نظَر.
وكذا بخلاف النَّقْد العِلمي المعتدل إذ النقد البَنّاء مطلوب على كل حال ومِن المَراتِب الشريفة للأَكِفّاء العاملين المتحمِّلين لواجباتهم الإلهية والاجتماعية؛ ولهذا يجد المتَتَبِّع أن الفقهاء رضوان الله عنهم يحثّون المكلَّف على تشخيص الأعلم والسؤال مِن العُدُول والثّقات وذوي الخِبْرة وغيرهم مِن مُعَيِّنات الشِّيَاع، وما ذلك إلا لكونه فعلاً راجحاً مطلوباً مادام يَسير وفق آلياته العُقَلائيّة.
ربما يَصْقل خطيبٌ أو مُحاضِر قِوَى غيرك فهو مفيد لحالة ذاك؛ أما أنت فليس هو ضالّتك التي تَبحث عنها ولا مَن تحتاجه وتَتَعقَّبه في هذه المَرحلة.
فلو فَرَضْنا خطيباً أنت لا تَفهم ما يَقول؛ فلماذا تتلف وقتك بالاستماع إليه في حين يوجَد خطيبٌ آخر تَفهم كلامه ولديه الجديد المفيد الذي تَفتقده؟! بادِرْ فوراً لهذا الآخر ولا تَكْترِث بما يَدُور حولك من كلام المتباهِين الذين يَتفاخرون بالفهم، أو الذين يَحضرون لاستماع الخطيب الأول وهم لا يَفهمون حديثه!
وإذا كان مثلاً الخطيب الفلاني مهتماً بمسائل مُعَيَّنة كالفقه، وأنت متعطشٌ لأن تروي روحك؛ متعطشٌ للأبحاث التي تعالِج النفس أو العقيدة؛ فالأَحْرى بك أن تُقدِّم الثاني على الأوّل.
وراوِد المَجلس الذي خطيبه ىَمتدِح الخير ويشِيْد به ويُشجِّع عليه وىدعو إليه ولا يجامِل في الحق ولا يَخشى قوله ويُحَقِّر الفساد والباطل معتدِلاً کما کان ىفعل رسول الله وأئمة الله عليه وعليهم أفضل التّحيّة غير مُدارٍ فيه القريب أو البعيد ولا صاحب المال ولا أَرباب الجاه، يَنهى مِن عُمق قلبهِ بوفاءٍ عن حُب، ولا يغْري ولا يُمَوِّه على الباطل ولا يُجَمّله ولا يَصمت عنه فيغْري به ولا ىُهادِن الظالمين باستغلال المَوضع على حساب الله ورَعيّته سبحانه، فعن إمامنا أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه قال: «مَن أَحبّك نَهاك، ومَن أَبغضك أَغراك» [2] .
وتَخَيَّر الأَوْرَع؛ أي الأكثر تَحَوُّطاً في الشبهات والشكوك والمسائل الخلافية الغير واضحة له، فإنّ الأَوْرَعيّة التي هي مَنَاطٌ عُقلائي مهم في تعيين الفقيه المقلَّد بعد تَكافُؤ الفقهاء في الأَعلَميّة، لا تَنحصر بحال التقليد فحسب، بل تَعم الخطيب والمُحاضِر ومن تريد أن تَتلقى عنه العِلم.
وتجنَّب المَواكب الرَّخيصة ومَجاميع العزاء المتدنِّية والمشبوهة التي تَتقَوَّت على جِراح إمامك الحسين عليه الصلاة والسلام وأهل بيته وأئمة الهُدى؛ كتلك التي تَستعمِل الأطوار الرَّقصيّة وأساليب المطربين ومَلابس أهل الضلال وصُوَرَهم بعناوين مغلوطة يَدْرون بها طمَعاً بانحطاطٍ منهم أو لا يَدْرون بِقِلّة وعيهم وجَفائهم التَقَصِّي وعدم تَواريهم عن المَشبوه، فإنّ الإمام الحسين إن كان قُتِل في كربلاء مَرّة فهؤلاء يَقتلون الإمام الحسين ومشروع الحسين وآل الحسين والمَذهب والدِّين في كل حدَثٍ ومناسَبة، وليسوا بأقل شناعة مِن قتَلَته الأوائل؛ فكيف تشاركهم متَلقِياً ما يَصدر عنهم بالرضا والتأييد!
ما أكثر المواكب السائرة على المَنهج الواضح الصحيح والمَجاميع العزائية المتحرِّزة الثابتة على الوَرَع والتَّقْوَى، التي تَلتهِب أشعارها في النفس راحةً وروحانيّة، وتفِيْض بك كلَّ إحساسٍ رفيع، فلْتَكُن هذه مَواطِن إناخَتِكَ ومُناصَرَتِك.
فإنّك إذا بَذَلْت سعيك في كل ذلك بصدقِ نفسٍ ونقاءِ خاطر سيَأخُذ الله تعالى بيَدِك لا مَحالة ويُسدِّدك نحو الفَلاح والتوفيق الأعظم الذي يَطمع به الثُّلّة مِنَ العُرُوجِيِّين السالِكِين المناضِلِين في مَيادينِ النُّفوس ومَكارِع الكُؤوس.