آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 9:20 ص

أخلاقُنا نستلمُها من وحي عاشوراء

علي ناصر الصايغ

وعادت أيام الحسين بمشاهد الألم والمأساة، بصور من الوحشية ونزيف الدماء، بصرخات البطولة وعويل النساء وبكاء الأطفال.. عادت بكل تفاصيل الحوارات التي دارت بين الحسين وقادة الشيطان عليهم لعائن الله، عادت بحوادث مؤلمة وفظيعة مرت على النساء والأطفال، فالخيام أحرقت وتفاررنه النساء والبنات والأطفال الصغار في البيدا هرباً من النار تارة وبحثاً عن الماء تارة أخرى، وكل مشاهد الجريمة والفاجعة شاهدتها زينب وبقيت وحيدة بلا ناصر ولا معين..

بدأت مسيرة عاشوراء في كل مأتم وكل بيت.. وخيم الحزن في نفوسنا وحياتنا من جديد.. في كل عام نحيي أيام الحسين لنستلهم منها دروس الإنسانية التي جسدها الإمام الحسين بكل أبعادها وتفاصيلها، لنتعلم من مواقفه البطولية وإيمانه الراسخ بقضيته، وسمو أخلاقه النبيلة والتي هي امتداد لخُلق جده المصطفى صَلِّ الله عليه وآله، وتضحيته الشريفة والتي سَجَل التاريخ كلماته الخالدة فيها عندما قال ”شاء الله أن يراني قتيلاً“ وشهادته الزكية والتي يرتقي بها أعلى منازل الجنة، وقال عنه النبي الأكرم ﷺ ”الحسين سيد شباب أهل الجنة“ وأَشار هو الى ذاك أيضاً بعد أن حمد الله وأثناء عليه قال: ”خُطَّ الموتُ على ولدِ آدم مَخط القلادة، على جيد الفتاة،

وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه، فكأني بأوصالي تُقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم

رضاء الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين“ ولا شك أن يقينه راسخ وأن كل ما سيجري عليه هو بعين الله وأن كل خطوة يخطوها لله فيها رضا..

في كربلاء تجلت كل فضائل الخير، كانت هناك حاضرة جسدها ابن بنت رسول الله صَلِّ الله عليه وآله في حديثه وحركته ونصحه ونهضته، فلم يبدأ القوم بقتال ولم يُسلم نفسه لهم حتى مُنع من العودة للمدينة او الذهاب للكوفة، ومنع عنه وعن أهل بيته وأصحابه الماء، في الوقت الذي أكرم أعدائه بأن سقاء لهم الماء حتى كان يسقي بعضهم بيده المباركة، حتى أنه لم يكتفي بسقيهم بل سقى حتى خيولهم، ولكنهم بالمقابل انسلخوا من إنسانيتهم وتجردوا من ضمائرهم ونزلوا الى حضيض منازل الجاهلية التي أنقذهم منها جده رسول الله صَلِّ الله عليه وآله، وقد أشارة فاطمة الزهراء في خطبتها المعروفة بالفدكية ”وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّار، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِىءَ الأَقْدام، تَشْرَبُونَ الطَّرَقَ، وَتَقْتاتُونَ القَدَّ، أَذِلّةً خاسِئيِنَ، تَخافُونَ أنْ يتخطّفكُمُ النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَانْقَذَكُمُ اللهُ بِأبي مُحَمَّدٍ“ ومن المواقف المفجعة عندما طلب منهم ان يسقو ولده الرضيع قليلاً من الماء!! فلم يكتفوا برفضهم؟ بل ذبحوه بسهم من الوريد الى الوريد وهو بين يده الكريمة، ولكنه قد أسلم أمره الى الله وخضب لحيته الشريفة بدم الرضيع ورفع يده نحو السماء قائل ”الهي إذا كان هذا يرضيك خذ حتى ترضى“ وهذا درس بحاجة لتأمل، وهو أن القائد يقدم كل ما من شأنه ان يخدم قضيته، نفسه.. أولاده.. عياله.. أصحابه.. أمواله.. والقضية التي قدم نفسه الشريفة لها، فقد ضحى من اجلها جده وأبوه وأمه وأخيه، ولكن دوره كان أعظم ويتطلب الأمر تضحية بشكل أكبر، فقد وصل الأمر بيزيد أن أمر قادته أن يقتلوا الحسين حتى وأن كان متمسك بأستار الكعبة، وصل الأمر بيزيد أن يمنع الماء عن الحسين وأطفاله وعياله، بل وصل الأمر أن يذبح الحسين ويقطع رأسه كما يُذبح الكبش وهو ريحانة رسول الله، وأمر أن تُحرق الخيام وبنات النبي وأطفاله فيها، وأن يُسبى أهل بيته وهم بنات رسول الله صَلِّ الله عليه وآله ويطاف بهم من بلد إلى بلد ومن سوق إلى سوق، وأمر أن يشاع أن هؤلاء خوارج حتى لا يتعاطف الناس معهم..

أعتقد أن ثورة الإمام الحسين لم تكن ثورة لإراقة قطرة دم واحدة ولم تقدم الضحايا فيها من أجل الشهادة كعنوان، وإنما الشهادة كقيمة حقيقية وهي وسام سماوي ومنحة ربانية يتفضل بها الله على الخيرة من عباده ولا تنال الا بالوعي والتضحية وتقديم الدماء، ولا تتحقق الا لهدف نبيل وقضية هي من مبادئ الدين وقيم العدل وحقوق البشر، فقد ضحى بنفسه وأهل بيته تلبية للنداء الإلهي فلا يمكن القضاء على ما حل في الأمة الا بشهادته وشهادة أهل بيته وأنصاره وسبي نساءه، وهم الصوت الذي فضح يزيد بعد شهادة الإمام الحسين ، وكل ذلك من أجل الدين الحنيف وأحكام الاسلام التي حُرفت والتي ضحى من أجلها رسول الله وأمير المؤمنين وأخيه الحسن وحتى يسود قانون المساوات والحرية بين بني البشر كما شرعه الله تعالى، وحتى تبقى السماء هي الحاكمة، حصلت هذه الثورة العظيمة والتي خلدها التاريخ وتناقلتها الانسانية طوال الألف والأربعمائة عام، ولا تزال الإنسانية تبحر في تفاصيلها وتدرس البعد الإنساني والديني والأخلاقي لقيامها لتنهل من عذب معينها لتكون دستور حق ومنهج حياة..