آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

منهاج السالك الحسيني «6» توصيات للمستمعين عامّة

السيد أمين السعيدي *

فأول التوصيات: الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر في الغرض وتحديده. و2 - تشخيص الغرض. و3 - توجيه الغرض. و4 - الإخلاص في الغرض. والإجابة على التساؤل: هل للإخلاص حدود وتفاصيل يمكن معرفتها؟ و5 - السَّير نحو تحقيق الغرض. وفيما يلي:

کيفيّة الضَّبْط:

ولِنَضْبِط الحدود ونَسىر على الغَرَض الصحيح محافِظِين عليه إلى الأَخِير علينا أن ندرِك الآتي:

● أولاً: أن ندرِك بأن الإخلاص مِن المَرحلة الأولى إلى المُنتهى خَيرُ النِّعَم؛ فعن وليّنا الصادق عليه الصلاة والسلام قال: «ما أَنعَم الله عز وجل على عبد أَجَلّ مِن أن لا يَكون في قلبه مع الله غيره» [1] ؛ بالتالي دئماً يخاطِب العاقل نفسه: كيف أُفَوِّت أَفضَل النِّعَم على نفسي!

وهذا - إذا تلاحِظ - يَتضِح في بقيّة الأمور التالي ذِكرُها:

● ثانياً: أن نَعْلَم بأن الإخلاص المُستدام إلى الأَخِير يؤَثِّر على كلِّ شيءٍ فينا حتى على أبداننا؛ فالعمل يَكون واحداً ويتغير نتاجه بسبب نِيّته؛ فمثلاً: سِكّين الجَرّاح وسکىن الشّرّير واحدةٌ بحسب الظاهر، ومِن حيث العمل أيضاً، لكن النِّيّة تَجعل المَوْقِف المتخَذ من أحدهما غير الموقِف المتخَذ من الآخر؛ فتَصير الأُولى نافعة فاعلة في سبيل إحياء نفْس المريض وإن مات، والأخرى مُرْهِبة إجرامِيّة وإن بقي المظلوم حيّاً؛ كذلك تماماً العمل بإخلاصٍ ودُونِه؛ فهو يؤَثِّر فكرياً وروحياً ونفسياً وجسدياً ومصيرياً، إما إيجاباً بتحقيق الإخلاص وإيجادِه أو سلباً بتَقْويضِه وافتقادِه، ولهذا مِن عمىق الحِكْمة وعجيبها أن يُشَبّهه أمير المؤمنين بالجسم والحياة بقوله:

«لا يَقومُ الدِّينُ إلا بالنِّيّة الصادقة، كما لا يَقوم الجسم بغير الحياة»، وىُشَبّهه إمامنا أبو إبراهيم الكاظم في وصية لهشام بالجسد والنَّفس الحيّة بقوله: «وکما لا يَقومُ الجسدُ إلا بالنفسِ الحيّةِ فكذلك لا يَقوم الدِّين إلا بالنِّيّة الصادقة» [2] .

● ثالثاً: أن نَعْلَم بأن الإخلاص الدائم في تحديد الغرض وعدمه.. مِلاكُ الإنسانية والبَهيميّة تكوينياً؛ فعن الصادق صلوات الله وسلامه عليه قال: «ولابُدّ للعبد مِن خالِص النّيّة في كلِّ حركةٍ وسُكون؛ لأنه إذا لم يَكُن هذا المَعنَى يَكون غافلاً، والغافلون قد وصَفَهُمُ الله تعالى فقال: ﴿إنْ هُم إلا كالأنعامِ بَل هُم أَضَلُّ سَبيلا وقال: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الغافلون» [3] .

فيَلزَم توظيف العقل كما وَظَّفَه أبو جعفر الباقر سلام الله علىه بقوله: «ما بَيْنَ الحقِّ والباطل إلا قِلّة العقل» [4]  وسِبْطُه أبو الحسن الكاظم عليه الصلاة والسلام في وصيّته لهشام بقوله: «ولا تَثْبُتُ النِّيّةُ الصادقةُ إلا بالعقل» [5] .

● رابعاً: أن لا نَرجو غيرَ الوَجْهِ الذي يَكفي كلَّ وجْهٍ؛ ففي خبر رسول الله ﷺ: «اعملْ لوجهٍ واحدٍ يَكْفيك الوجوه كلَّها» [6] ؛ فمَن ذا يَكون الوجه الذي يَستطيع أن يَكْفينا كل الوجوه غير وجه الله الذي هو الوحيد القادر على ذلك؟ وفي مَقُول أبي جعفر «ما بَيْنَ الحقِّ والباطل إلا قِلّة العقل» قيل له:

«وكيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: إنّ العبد يَعمَل العمل الذي هو لله رضاً، فيريد به غير الله، فلو أنه أَخلَص لله لجاءه الذي يريدُ [مِن ذلك الغَير] في أسرع مِن ذلك»، وقد تَقَدَّم عليك فيما رواه الشيخ المفيد - أعلى الله قَدْرَه - في قول أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه حىن سُئِل عن خَيْر الدنيا والآخرة، فكَتَب: «بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فإنّه مَن طَلَب رضى الله بِسَخط الناس كَفاهُ اللهُ أمورَ الناس، ومَن طَلب رضى الناس بسخط الله وَكَلَه اللهُ إلى الناس، والسلام».

فلَزَمَ اجتنابُ الهوى وقَطْعُ الطَّمَعِ بالناس فإنهم مِن تُراب وإلى تراب؛ لذا کان «أوّلُ الإخلاص اليأسُ مما في أيديهم»، لكنّ هذا لا يَعني الاعتزال عنهم في الحوائج والمَطالِب وإنكار آثارهم التي جَعلها الله تعالى في إيجادهم وطاقاتِهم وتَمايُزاتِهم؛ فالإنسان كما يَنُصُّ الحُكماء في علم النفس الفلسفي اجتماعيٌّ بطبعه، أو اعتزاليٌّ بطبعه لكنه بحاجةٍ ماسّةٍ للمجتمَع مما يَتسبب بجعله اجتماعياً لتحقيق مَصالِحه الضرورية وكَمالاته. فهو بحاجة للمجتمَع البشري المماثِل له كحاجته للمجتمع الطبيعي مِن نباتات وغيرِها، والعِباد المَفطورة على العُقول وسيلةٌ مطلوبة كما أنّ الحَبْل وسيلةٌ لبلوغ القِمَم والسُّلَّمَ وسيلةٌ لصعود الأعالي؛ لذا قَرَن سبحانه في الخَيْرِ شُكْرَه بشُكرِهم وأَوجَب على العبد الحَمْدَ للمخلوق المحْسِن.

● خامساً: أن نَتذكر دائماً أن الله تَقَدَّسَتْ أسماؤه أَزهد ما يَكون في عملٍ مَشُوب، سواءٌ فَسَدَ الغَرَض بشائبةٍ مِن بداية الأمر أم في وسط الأداء أم في منتهاه؛ فمَنْزِلة صاحِب العمل المَشُوب عند الله كمَنْزِلة الفَقيهِ مِنَ السَّفيهِ وكمَنزلة السَّفيهِ مِنَ الفَقيهِ فذاكَ زاهِدٌ في قُرْبِ هذا وهذا فِيهِ أَزْهَد مِنْهُ فِيه؛ ففي القُدْسي - وهو موَثَّق كالصَّحيح - روي عنه سبحانه: «أنا خَيرُ شريك ومَن أَشرَك معي غيري في عملٍ عمله، لم أَقبله إلا ما كان لي خالِصا» [7] .

واعْلَم أنه إذا قِسنا الأَداء مِن حيث الجُهْد الإنساني ”في الشيء المترابِط“ فكلما وقعَتِ الشائبة في العمل متأخّرة عن حين شروعه كلما كان ذلك أَشد فشلاً للعبد؛ فمثلاً فَساد النّيّة في منتصَف الطريق أشد خسارة من فَسادها في أول الطريق، وفَسادها في نهاية الطريق أشد خسارة من فسادها في أول الطريق ووسطه؛ ذلك لأن العبد يَكون قد أضاع شَوْطَ أتعابه التي بَذلها فذهبت بما خَلط به نيّته مِن الأهواء واللذائذ الباطلة فكُتِب عند الله فاسداً وباطلاً مُستهلَكاً لصالِح تلك اللذائذ الباطلة، فهو مَثيل قول أمير المؤمنين «الحَجَرُ الغَصِبُ في الدّارِ رَهْنٌ على خَرَابِها» [8] ؛ أي الحَجَر المغصوب الذي وُضِعَ في بِناء الدارِ وإقامتِها يَجعل مِن الدار كلِّها مَرهونة لذلك الحَجَرِ بخَرابها بسببه رغم أن باقي البِناء كلُّه مِن الحَلال.

وهذا بخِلاف العمل ”الغير مترابِط“؛ فإنّ فَساده في مَرحلة مِن المَراحل لا يَنسحِب على المَرحلة أو المَراحل السابقة مادام لم يَرْجع العبد عليها بإفسادٍ آخر يهدمها به، وفي كل ذلك متى تاب العبد وعاد إلى رُشْده وسلامةِ الأَداء جابراً ما يَحتاج مِن الخَلَل لِجبران - إنْ وُجِد - استطاع الخُروج مِن ساحةِ البُعْدِ عنه سبحانه والعَوْدة إلى فِناءِ الرَّحمة القُدْسيّة.

● سادساً: أن لا يَذْهَب عن فكرتنا أن الثَّباتَ على خَطِّ الغرض الصحيح فيه النَّجاة؛ فقد قال أمير المؤمنين: «في الإخلاص يَكونُ الخَلاص» [9] .

● سابعاً: أن نوَطِّن أنفُسَنا على يَقينيّة أن الإخلاص رأْسُ مالِ كلِّ توفيقٍ وخيرٍ في كل العوالِم، سواء كان توفيقاً ذِهنيّاً أم ناسُوتيّاً خاصّاً أم مجتمعيّاً أم أُمَميّاً أم مَلَكوتيّاً أم برزخياً أم أخروياً.. ﴿إنّ الذِينَ آمَنُوا وعَمِلوا الصالِحاتِ سيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحمَنُ وُدّا[مرىم 96]؛ فقد فُسِّر العمل الصالح في الروايات والتفاسير بما يَكون غرضه لله أَبَديّاً.

وهذا الوُدُّ ليس مخصوصاً بهذا العالَم الدنيويِّ النازِل فحسب، بل يَشمل العوالم الأخرى تجاه العبدِ بما فيها مِن جُنود وموجودات تابعة لله؛ كودِّ الأنبياء له والملائكة وأموات المؤْمنين وكودِّ جَنّةِ البَرزَخ له وكودِّ شجرِ وأنهارِ جَنّة الفردوس له..؛ وعلى رأسها وُدُّ الله له الذي هو فاعلٌ تلقائي لِنُشوء الودِّ لذلك العبدِ مِن كل جنودِه ومخلوقاتِه التابعة له سبحانه بما فيها مؤْمِنِيِّ الجِن؛ فكلُّ شيءٍ رَهْنٌ لخِدْمةِ وسعادة هذا العبد العامل المودود.

● ثامناً: أن نُدْرِك بأن فقداننا للإخلاص الكامل دليلُ عدم يقينيّتنا بالله أو ضَعْفِ اليقين؛ فإنه «على قَدر قوَّة الدِّين يَكون خُلوصُ النّيّة»، بينما يقول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: «سببُ الإخلاصِ اليقين» [10]  والعكسُ عكْسُه.

 

[1]  التفسير الصافي، للفيض الكاشاني: ج1 سورة البقرة ص150 - مستدرك الوسائل، للميرزا حسين النوري الطبرسي: ج1 ص101 نقلاٌ عن تفسىر العسكري ص132 - بحار الأنوار، للعلامة المجلسي: ج66 ص 343 ج67 ص198 ج67 ص211.

[2]  تُحَف العُقول عن آل الرسول، لابن شُعبة الحراني: ص396 - بحار الأنوار، للعلامة المجلسي: ج1 ص153 ج75 ص312.

[3]  مستدرك الوسائل، للميرزا حسين النوري الطبرسي: ج1 باب8 من أبواب مقدمة العبادات ص99 ر86/ 3 ناقلاٌ عن مصباح الشريعة.

[4]  المَحاسن، لأحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج1 ص254 ح280.

[5]  تُحَف العُقول عن آل الرسول، لابن شُعبة الحراني: ص396 - بحار الأنوار، للعلامة المجلسي: ج1 ص153 ج75 ص312.

[6]  كنز العمّال، للمتقي الهندي: ج3 ص23 ر5260 - الكامل، لعبد الله بن عدي الجرجاني: ج7 ر28/ 1981 ص49.

[7]  روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، لمحمد تقي المجلسي الأول: ج12 وجوب الإخلاص في العمل ص141 - المحاسن، لأحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج1 ص252 ر270 - الكافي، للشيخ الكليني: ج2 ص295 ر9.

[8]  خطبة الوسيلة للإمام علي .

[9]  ميزان الحكمة، للشيخ محمد الريشهري: ج1 ص754.

[10]  عيون الحِكَم والمواعظ، لعلي بن محمد الليثي الواسطي من أعلام الإمامية في القرن السادس: الباب الثاني عشر مما ورد في حكم أمير المؤمنين في حرف السين فصل1 ص282.
ماجستير فقه ومعارف إسلامية وفلسفة ، مؤلِّف ومحقِّق وأستاذ حوزوي.
- موقع السيد أمين: www.anbyaa.com