منهاج السالك الحسيني «5» توصيات للمستمعين عامّة
فأول التوصيات: الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر في الغرض وتحديده. و2 - تشخيص الغرض. و3 - توجيه الغرض. و4 - الإخلاص في الغرض. والإجابة على التساؤل: هل للإخلاص حدود وتفاصيل يمكن معرفتها؟. وفيما يلي:
بمعنى أنْ تَتجّه نحو غَرَضِ النِّيّة الصالحة التي حدّدْتَها وخلَّصتَها مِن الكُدُورات فتُحقّقها على أرض الواقع مع الحِفاظ عليها إلى الأَخِير، فالسالك قد يحدِّد غرضه ويشخِّصه ويُخَلِّصه مِن الشَّوائب كلِّها ويُحقّقه أيضاً في الواقع العملي لكنه في منتصَف الطريق سرعان ما يَخْمل ويَفنى صبرُه ويَنهزِم ويَتراجع أو يُلَوِّث غرضه بشائبة منْكَرة فلا يَنال النَّجاحَ والفَلاح. هذا الذي هكذا هو أَشْبَه ما يَكون بالوليد حديثِ الحَبُوِ أو الصغير، ألا تَرى أنّ الطفل إذا تَوَجَّه نحو شيءٍ تَفْصله عنه مسافة - وإن كانت صغيرة - فصادَف شيئاً آخر في طريقه انحَرف نحوه؟ وكلّما كان طريق ذاك الشيء أَبْعَد كلّما كانتِ العَوارِضُ أكثر وكلّما كان الوُصوله إليه أَصعَب ومُمِلّاً لِمن يَنتظره ومُنَفِّراً له وإن كان نفس الطفل يَعيش اللَّذة غير ملتفِتٍ لما يَنتج عنه هذا التصرف مِن نَفاد الفُرْصة والسّخط الذي يَنتظره جَرّاء ذلك.. وإذا أَلْقَيْتَ له شيئاً زَهِدَ بما في يده مما يُحِب وربما ألقاه في القُمامة كشيءٍ مِن الفَضَلات مسْرِعاً نحو الآخر، ثم إذا أَبصَر طفلاً أَخَذَ ما تَركه اشتاق إليه ونازعه فيه، فهو يتقلَّب في إراداته حسب كلِّ عارضٍ جديدٍ دُون وعي..
في المقابِل هنالك الكثير مِنّا مَن هكذا أحوالهم ولكن بهيئةٍ مطوَّرة، قد تجده يَصبر، لكنه لا يَحْتَمِل طُول الصبر..؛ أَمّا الذين يَتحلَّون بطاقةٍ هائلةٍ على الثَّبات والتَّحمُّل، فهُم قِلّة. إنّ السَّير نحو تحقيق الغرض إلى آخر مرحلةٍ منه يَحتاج للوعى والرقابة والسعي للثبات على خَط الغَرَض، فالإنسان العظيم لا يُثْنيه عارِضٌ عن غايته الأساس المحدَّدة ولا يحْنِيه شيء عن مَسيره نحو ذلك الأُفُق بالتوکل على الله مستعيناً بقوَّته وعونه سبحانه وتسديده؛ فلا حول ولا نَجاة ولا عِزَّ ولا غنى إلا بهذا التوكل، حيث أُثِرَ عن أبي عبد الله الحسين عليه الصلاة والسلام قوله: «إنّ العِزَّ والغنى خَرجا يَجولان، فلَقِيا التَّوكُّلَ فاستَوطَنا» [1] .
فأُولَئِك - القِلّة - الذين يَتحلَّون بطاقةٍ هائلةٍ على الثَّبات والتَّحمُّل، إنما يَصِلون إلى هذه القوّة بالتّمرُّس وقوَّةِ جَمْرةِ نارِ المَحَبّة فيه أفئدتهم - الكامنة في قوَّة الإرادة - والالتفات والملاحَظة؛ لذا كان الله تعالى معهم؛ لأنهم حقّاً أحباؤه فهُم أفرادٌ أقوياء؛ ولذا وصَفَهم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بالعاملِين؛ ذلك لأنهم يَصِلون لمُنتهَ العمَل ويحققونه على أرض الواقع كما يَنبغي له أن يَكون دُون إخلالٍ يَرتبِط بالمجهود اللازم، وأنا وأنت لِنَصِير منهم لابُّد أن نَفهم أولاً بأنَّ الحِفاظ على النّيّة صحيحة طوال خَطِّ المَسير أَشد مِن جهاد السَّيف والقتال في المعاركة الأكثر ضَراوة كما ذَكر عليه الصلاة والسلام.
فاعلمْ أيها العزيز أنّ هذه هي أَصعب مَرحلة بين هذه المَراحل؛ لأنها مُرَكَّبة من جميع المراحل السابقة وستتكرر معك كل لحظة طوال مَسيرك نحو الهدف؛ بالتالي هي ليست بحاجة لأيِّ رقابةٍ كانت، هي بحاجة لرقابة دقيقة ومستدامة؛ يقول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: «تَخليصُ النِّيَّة عنِ الفَساد أَشَدُّ على العاملِين مِن طُولِ الجِهاد» [2] .
إننا نعوذ بالله تعالى أن لا نوفَّق لذلك فنَخِيب ونَفْشَل، نعوذ بالله أن نَقع بوسط الطريق في مَصيَدةٍ لأهوائنا الشَّقيّة أو للشيطان.
فالذين خَرجوا مع الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام من مکة المشرَّفة كانوا کُثُر، ومِن العُبّاد، وربّما أَطْلَقَ عليهم البعض مُسمَّى عُرفاء، فقد بَلَغ عدد هؤلاء بحسب رواية الأندلسي والدَّيْنورِي 90 شخصاً[3] وحسب رواية ابن كثير 300 شخص[4] بينما ذَكر المسعودي عددهم في كربلاء بعد مُضايَقة جيش الحُر الرياحي أكثر من ذلك بكثير[5] ، لكن الذين وَصلوا معه علىه الصلاة والسلام إلى ساعة العُسْرة وبَقوا معه إلى خَطَرِ العاشر ىشارکونه المِحَنَ المُفْجِعة والآلامَ المُوْجِعة يواسونه بکل شيء في كل شيء عددهم بجسب أشهَر الروايات والتي منها رواية لِلوط بن يحيى الغامدي الأزدي عن الضّحّاك بن عبد الله المشرفي ورواية الشيخ المُفيد 72 شخصاً[6] ..، فمجموعة من أُلئك الأصحاب انسَحبوا في وسط الطريق، بل وفي أشد لحظات الأداءِ والعمل، لماذا؟ هل لأنهم يَجهلون مقام الإمام عليه الصلاة والسلام وطريقه؟ أم كانوا جُبَناء يَخشون ضَرْبَ السَّيف..؟
كَلّا؛ فهُم يَعرفون الحسين سلام الله عليه أكثر مني ومنك وعاشروه عن حِسٍّ مباشر يرونه بأعينهم ويسمعونه بآذانهم - وليسَ الخَبَرُ مِنّا كالمُعايَنة مِنهم - ولا يَأْنَفون المَعارِك وإلا لَما كانوا خَرَجوا إيّاه مع يقينِهم بوقوعِ حربٍ وراء ثَوْرته، بينما في المقابِل نجد الذين انتَقَلوا مِن جيش العدو إلى جيشه عليه الصلاة والسلام يَصِل عددهم - على رواية السيد ابن طاووس - إلى 32 رجلاً[7] ، فما هو السبب الذي يَجعل مِن جوَين بن مالك بن قيس الضبعي والحلاس بن عمر الراسبي وأخيه النعمان وزهير بن سليم الأزدي والحارث بن امرئ القيس الكندي وعمرو بن ضبيعة التميمي وعبد الرحمن بن مسعود بن الحجاج وأبيه مسعود وأبي الشعثاء الكندي، ما السبب الذي يَجعل مِن هؤلاء وأمثالِهم أن يغَيِّروا مَسارهم ويَنتقلوا بكامل إراداتهم مِن معسكَر ابن سعد إلى معسكَر الإمام سلام الله عليه؟ لقد تَحوَّل هؤلاء في المَوقف الذي يَرون فيه النَّصر الميداني لِمَن، تَحوَّلوا مِن مَظْهر العدو إلى أصحاب وأصدقاء ورِفاق دَرْبٍ أَبَديٍّ في كلِّ شيء. بل وإنّ بعض أصحاب الإمام عليه الصلاة والسلام بَقوا صامدِين على غَرَضِهم الخالص الطاهر إلى ما بعد استشهاد الإمام ؛ كأبي الحتوف وأخيه سعد بن الحرث وكذا سويد بن أبي مطاع الذي كان جريحاً ثم استشهد بعد استشهاد الإمام..، فهُم لم يَقولوا مادام استشهد الإمام وانتهى الأمر لا داعي للاستمرار على هذا الطريق.
فالسبب كلُّ السبب هو أنّ هؤلاء العاملِين خَلَّصوا نِيّاتهم عن الفساد وساروا بثَبات على خط الغَرَض إلى آخر لحظة، بينما أُولَئِك لم يَمتلِكوا الإخلاص الحقيقي الدائم والتقْوَى الكافية والثَّبات المستديم، إنّ أرضيّة قلوبهم مَشُوبةٌ غيرُ نقِيّة؛ لذا كانت مؤهَّلة لأن تَنحني في أي لحظة وتَميل إلى جانب الغَير والغَيْريّة والمَصلَحة الشخصيّة الآنِيّة وطاعة الشيطان والضَّىاع، فزَلَّت أقدامُهم في منتصَف المَسير وباؤوا بالفَشَل وخَسِروا خُسراناً مُبِيْنا. أليس كلُّ هؤلاء رَحَلوا ولم يَبقَ سِوى صنائعهم بين أهل الدنيا وفي البرزخ والآخرة؟ حقاً إنه واقِعٌ مُخِيف، فكم تَحتاج النفسُ للإعداد قبل الامتحانات المستفحِلةِ في صُعوبتها وخُطورتها وعميقِ ابتلاءاتها وإلا فإنّ الإمام عليه الصلاة والسلام كما لم يَكُن عدد العدو - مِن حيث الصِّراع - يهمه أو يُغَيِّر مِن عزيمته وإرادته كذلك عدد هؤلاء - مِن حيث الصِّراع - لم يَكن يَعنِ شيئاً بالنسبة له وهو الذي بحسب بعض الروايات عن أبي جعفر الباقر أُصيب ب300 وبِضْعة وعشرين طَعنة برمح وضَرْبٍ بسَيف ورَمْيٍ بسهم[8] ، فسواءٌ عنده صلوات الله وسلامه عليه ذَهبوا معه أم رَجعوا، انضموا إليه أم لم يَنْضَمّوا، فوجودهم لن يحقِّق الهزيمة للعدو..، إنما هُم ونحن بحاجة للحسين وخُلودِه لا الحسين بحاجتنا وحاجتهم؛ لذا أَحَلَّهم مِن بَيْعته عدة مرات بإرادته الكاملة وبكُلِّ صدق، ويُحِلّنا نحن أيضاً مِن بَيْعته كما أَحَلَّهم. هؤلاء لنا عِبرةٌ نحن المساكين الباقين في شَوْطِ الامتحان؛ ف «الفِکْرةُ مِرْآةٌ صافىةٌ والاعتبارُ مُنْذِرٌ ناصِحٌ، مَن تَفَکَّرَ اعتَبَرَ ومَنِ اعتَبَرَ اعتَزَلَ [أخطاءَ الماضين وعصيانهم أوامر الله] ومَنِ اعتَزَلَ سَلِم» [9] ، «فاعتَبِرُوا بما کان مِن فِعْلِ اللهِ بإبلىسَ إذ أَحْبَطَ عمَلَهُ الطَّوىلَ وجَهْدَهُ الجَهِىدَ وکانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلافِ سَنَةٍ لا ىُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنىا أَم مِن سِنِي الآخرةِ عَنْ کِبْرِ ساعةٍ واحدةٍ، فمَنْ ذا بَعْدَ إبلىسَ ىَسْلَمُ على اللهِ بمِثْلِ مَعْصِىَتِه؟
کَلّا ما کانَ اللهُ سبحانهُ لِىُدْخِلَ الجَنَّةَ بَشَراً بأَمْرٍ أَخرَجَ به مِنْها مَلَکاً، إنَّ حُکْمَهُ في أَهْلِ السَّماءِ وأَهلِ الأرضِ لَواحِدٌ وما بَىْنَ اللهِ وبَىْنَ أَحَدٍ مِن خلْقِهِ هَوَادَةٌ[10] في إباحةِ حِمَىً حَرَّمَهُ على العالَمِىن» [11] ، فنَعوذ بالله أن نَكون مصداقاً لمن قال عنهم رسوله ﷺ:
«مَن طَلب العِلم للدنيا والمَنزلة عند الناس والحَظْوة عند السُّلْطان، لم يصب منه باباً إلا ازداد في نفسه عَظَمةً، وعلى الناس استطالةً، وبالله اغترارا، ومِن الدِّين جفاءً، فذلك الذي لا يَنتفع بالعِلم، فليكفّ وليمسك عن الحُجّة على نفسه، والنَّدامة والخزي يوم القيامة» [12] ، ﴿وأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَني لَم أُوتَ كِتَابِيَهْ * ولَم أَدْرِ ما حِسَابِيَهْ * يا لَيْتَها كانتِ القاضِيةَ * ما أَغْنَى عَنِّي مالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلةٍ ذَرْعُها سَبْعونَ ذِرَاعاً فاسلُكُوهُ *... فلَيْسَ لَهُ اليَومَ هاهُنا حَمِيمٌ * ولَا طَعَامٌ إلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إلَّا الخاطِؤُونَ * فَلَا أُقْسِمُ بما تُبْصِرُونَ * وما لا تُبْصِرُونَ * إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ * ولَا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ باليَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ * وإنَّهُ لَتَذكِرَةٌ لِّلمُتَّقِينَ *... وإنَّهُ لَحَقُّ اليَقِينِ﴾[الحاقّة: 25 - 51].
ونسأله سبحانه - في ذات الحِين - وهو المُعِيْن اللَّطيف أن نَكون ممن قال عنهم ﷺ: «مَن طَلب العلم لله لم يصب منه باباً إلا ازداد في نفسه ذلاّ، وفي الناس تواضعا، ولله خوفا، وفي الدِّين اجتهادا، وذلك الذي يَنتفع بالعلم فليتعلّمه» [13] ، ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خافِيةٌ * فأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بيَمينِهِ فيَقُولُ هاؤُمُ اقرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيْشَةٍ رَّاضِيةٍ * فِي جَنَّةٍ عالِيةٍ * قُطُوفُها دانِيةٌ * كُلُوا واشْرَبوا هَنِيئاً بما أَسلَفْتُمْ فِي الأيّامِ الخالِيةِ﴾[الحاقّة: 18 - 24].