أصالة لعن الله الشاك
بعد نشري المقال الذي كان بعنوان «نظرة بانورامية لخطباء المنبر الحسيني» التقيت بصديق عزيز أكن له كل الود والحب والتقدير، وهو أيضا يبادلني نفس المشاعر، إن لم يكن أكثر رغم اختلافنا في التوجهات الفكرية والمشارب الثقافية وتبايننا في النظرة إلى الأمور، فتناقشنا في موضوع المقال بكل ود واحترام - لأن أخوتنا الصادقة أكبر بكثير من خلافنا الفكري الذي لم ينعكس يوماً على علاقتنا - وأمطرني بوابل من الانتقادات، من ضمنها:
- أنتم يا من تدعون الثقافة، إلى أين ستأخذون المجتمع بكتاباتكم وآرائكم؟
- لماذا لا تتركوا الناس وشأنهم في أمر عقائدهم؟
- لماذا تحاربون المنبر الحسيني، وتريدون أن تحرفوه عن النهج المعتاد والمتعارف عليه؟
- إلى متى تقتاتون على أفكار مطهري الجوفاء؟
وبعد أن أمطرني بوابل انتقاداته انتقل إلى موضوع زواج القاسم بن الحسن في كربلاء، وسألني:
هل تشكك في وقوع هذه الحادثة أو غيرها من أحداث التي وردت في كتب المقاتل وكتب السيرة الحسينية وما ورد على ألسن الشعراء بحجة عدم انسجامها مع العقل والمنطق؟
فقلت له: قبل أن أجيبك على تساؤلك هذا، الذي تنحصر الإجابة فيه بنعم أو لا، سأسألك سؤالاً تكون إجابته تأصيلاً لنا في قبول أو رفض أمثال هذه الحوادث التي لم تبلغ حد التواتر أو الاستفاضة أو الوثوق، وهو: ما هو المعيار الذي ينبغي أن نعتمده في قبول أو رد أمثال هذه الحوادث الواردة في بعض الكتب والسير؟
فأجابني ولم تكن إجابته صادمة لي - وإن كانت صادمة للقارئ ذي النزعة العقلانية - لمعرفتي المسبقة بأنساقه الثقافية ومتبنياته الفكرية:
إن كل ما ورد في كتاب المقاتل القديمة تاريخياً أو الكتب التي ألفها قدماء العلماء فهي موضع قبول وتسليم دون تمحيص أو تدقيق أو تنقيب.
فقلت له: هل هناك من العلماء من يوافقك هذا المتبنى؟ قال: نعم، وسأرسل لك متبناه ومنهجيته في هذا المقام. وبالفعل قد أرسلها لي.
يتحدث هذا العالم الجليل عن منهجية البحث في التراث، فيقول: «إن سرد الخطباء لزواج القاسم ونحوها من الأحداث والأمور التي ذكرها أرباب المقاتل القديمة تاريخيا أو التي ألفها كبار العلماء الفقهاء كالطريحي، فهو إحياء للتراث. ولو اقتصر في الحفاظ على التراث التاريخي والروائي الحديثي على ما يصح منفرداً آحادياً، وأبيد وأتلف التراث الآخر، لذهب وأبيد وطمس المتواتر والمستفيض والموثوق».
لو قمنا بنظرة فاحصة ولاحظنا ما قاله هذا العالم الجليل بدقة لوجدنا بأنه يؤسس لمنهجية في غاية الخطورة، ألا وهي قبول الغث والسمين من الموروث دون تثبت أو تدقيق أو تمحيص بحجة إحياء التراث والمحافظة عليه والخشية من اندثار المتواتر والمستفيض والموثوق. هذه المنهجية من لوازمها تأصيل فكرة ولازمة ثقافية ألا وهي أصالة «لعن الله الشاك».
وهذه الأصالة في غاية الخطورة، إذ متى ما تغلغلت في نفوس أفراد المجتمع بات المجتمع يعيش حالة جهل مقدس.
يقول الكاتب الفرنسي أوليفيه روا في كتابه الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة: «المقدس هو سيادة معيار بإسم الدين لإجهاض الثقافة والفكر».
والأمر الملاحظ وليس بخاف على أحد، أن الخطيب الذي يروج الخزعبلات والأساطير والأمور التي لا تستقيم مع العقل والمنطق يستخدم هذه الأصالة عند إطلاقه تلك المقذوفات الخرافية.
فإذا كان الفقيه يعتمد على الأصول العملية كالاستصحاب والاحتياط والبراءة كبديل عملي في حالة عدم وجدان الدليل اللفظي، فهذا الخطيب ذو النزعة الأسطورية يعتمد على أصالة لعن الله الشاك. إنها مفارقة عجيبة تضحك الثكلى، حيث فرق بين الثريا والثرى، فرق بين تأصيل علمي منهجي يتسق مع العقل والمنطق يعتمده الفقيه وتأصيل لتمرير الأسطورة والخرافة بإسم الدين يستخدمه الخطيب ذي النزعة الخرافية.
صديقي العزيز:
حري بنا أن نؤصل أصالة الفكر في مقاربة ومعالجة مثل هذه القضايا - وهذه الأصالة موضع تبني من مراجعنا العظام الذين يشار لهم بالبنان - بدلا من أن نؤصل لثقافة لعن الله الشاك ونعمل على غرسها في نفوس الناشئة.
صديقي العزيز:
أصالة الفكر قائمة على محاكمة الفكرة سواء من ناحية بنائها ومضمونها أو من ناحية مآلها ونتائجها.
صديقي العزيز:
المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر يتحدث عن دور العقل الواعي وتأثيره، إذ يقول في كتابه المدرسة القرآنية عن التوحيد: «هو ينشئ في الإنسان العقل الاستدلالي أو البرهاني الذي لا يتقبل فكرة دون تمحيص، ولا يؤمن بعقيدة ما لم يحصل على برهان، ليكون هذا العقل الواعي ضماناً للحرية الفكرية، وعاصماً للإنسان من التفريط بها بدافع من تقليد أو تعصب أو خرافة».
صديقي العزيز:
لماذا تريدني أن أقدس الجهل؟ هل تعلم بأن تقديس الجهل يؤول بالإنسان إلى درك أسفل، فيكون حاله حال الحيوان، همه الوحيد إشباع بطنه وفرجه، والله سبحانه وتعالى منحه أعظم نعمة ألا وهي العقل ليفكر به ويبدد الجهل لا للتفريط به أو شله عن التفكير.
صديقي العزيز:
إن خطورة الجهل ليست مقتصرة على الفرد بل تمتد إلى الدين، فالدين الذي يُرسم من قبل أتباعه ويصور للآخرين على أنه دين يمجد الخرافة لا الثقافة هو وجه من التعصب، يقول الكاتب الفرنسي أوليفيه روا في هذا الصدد: «إيمان بلا ثقافة هو وجه لما يسمى بالتعصب».
صديقي العزيز:
معذرةً إن أكثرت عليك في الأسئلة. لماذا تريدني أن أكون متديناً شكلاً وجاهلاً بالدين مضموناً؟ لماذا تريدني أن أكون متعصباً وأن أبقى على موروثات ومسلمات الأجداد دون مراجعة نقدية؟
صديقي العزيز:
لنكن من أنصار أصالة الفكر لا من أنصار ثقافة لعن الله الشاك.
ولنقرأ في أفكار رجال الفكر الذين ساهموا بنشر الوعي والفكر والثقافة بأفكارهم النيرة وعطائهم الثر كالسيد محمد باقر الصدر والشيخ مرتضى مطهري والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ عبدالهادي الفضلي ونحوهم.
فأفكارهم أشاعت في الأمة وعياً وفكراً وثقافةً وواجهت تيار الخرافة والأساطير والاستغراب في آن.
صديقي العزيز:
لننفتح على كل فكرة تحرك العقل وتثير الفكر وترفع من منسوب الوعي بغض النظر ممن صدرت دون إقامة اعتبار لعرقه أو دينه أو مذهبه ونحو ذلك من الاعتبارات في قبولنا أو رفضنا لها.