منهاج السالك الحسيني «4» توصيات للمستمعين عامّة
فأول التوصيات: الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر في الغرض وتحديده. و2 - تشخيص الغرض. و3 - توجيه الغرض. و4 - الإخلاص في الغرض. والتساؤل: هل للإخلاص حدود وتفاصيل يمكن معرفتها؟ فتَقدَّمَتِ الإجابة عليه ببيان الحدود، وفيما يلي:
أما مِن حيث الواقع العملي الحاصل والحالات المتوافِرة بيننا؛ فإنه مثلاً إذا وُجِد شخص قد قَرَن استماعه بمَجلس فلان فقط لأنّ الخطيب مِن أقاربه بِغَضّ النظر عن أي مُسَوِّغٍ شرعيٍّ مطلوبٍ وحَسَن، مع أنّه يَعلَم بأنّ قريبه هذا مُعِينٌ للظَّلَمة أو يَتكلَّم في العِلم بغير عِلم متجرّيّاً على الله ورسوله أو يُحَرِّف المَبادِئ مبتِغياً إرضاء الأثرياء أو ذوي الجاه وأصحاب المَنازل المادّيّة والمَناصب للحَظْوة عندهم والفوز بنَوائلِهم وتقديمه للقراءة عندهم؛ فإنّ هذا الحضور لذلك المَجلس حرامٌ وفاعله مأثومٌ أشد الإثم وهو حتماً من أعداء الله ومحارِبيه.
أو لو وُجِد آخر قد عقد حضوره بالمجلس أو المسجد لأجل أنه إذا ذَهب فيما بعد إلى جُلَسائه وتَجَمُّعِ أَقْرانه مِن الأصحاب أو الأقارب يُباهيهم بما سَمع وىَتفاخر علىهم بذلك الحضور قائلاً: أنا أَحضر عند فلان وأًستمع لفلان وأُصَلي خلْف فلان!
أو لو حَصَل لشخصٍ نيّة معَلَّقة على حضور مَجلسٍ حسب تواجُد مستمِعٍ آخر معجَب بصورته ىُحبّه مَحبّة غير عَفيفة ويريد أن يَتواجد في مكان تَواجُده جاعلاً مِن استماعه سبباً ووسيلة لبلوغ مَقصَده الشَّنيعِ الذَّميمِ هذا.
أو حَضَر مستمِعاً ليحارِب الجماعة المؤمنة الأخرى التي يَختلِف معها في القَناعات، أو ليُسَجِّل مَوقِفاً بالتّصيُّد على خطيبٍ ما أو أصحابِ مَجلِسٍ ما مبتغِياً تسقيط هؤلاء المؤمنين والحَطَّ من أقدارِهم، أو ليُوَهِّنه منافَسةً وحسداً منه له، أو ليحقِّق لنفسه الرئاسة المذمومة على أرحامه وقراباته أو على أيٍّ من المشارِكين، أو ليَتمثَّل للمؤمنين تَمَثُّل الصالح النَّقي ليَكسب أصواتهم في سباقٍ انتخابي، أو ليَتعرَّف على الناشِئة والمثقَّفين مستهدِفاً بَث سمومه وانحرافاته لاحقاً بيْنهم وتجنيدهم لأفكاره وترويج قَناته وإعلامه البائس، أو ليَدُكَّ على القلوب بالبغضاء والوِشاية، أو لأجل أن يَسْخر على أَقْرانه ويَستهزِء بأحوال الناس والعابرين، أو لىَنظر للنساء نظرة الشهوة والرِّيبة باسطاً شِراكه يَتصيَّد عورات الناس وحُرُماتهم مُوَطِّناً نفسه على الظَّفَر بعلاقةٍ مع امرأةٍ منهنّ، أو ليَستعرِض جَماله وأناقته متأنِّثاً كالفتيات، أو آخر يريد العزاء في الموكب الفلاني والمكان الفلاني ليبرز مَظْهَراً يتلذذ به نفسياً أو ليَستعرِض هَيَجان عزائه للمتربِّصات أو ليَستعرض عضلاته وقوَّته واستعداده للمُشكلات مع المارة، أو لتَتغزّل مع صاحبتها بالصِّبية أو لتَستعرِض مَفاتنها وأناقتها أمام الناظرين أو المعزِّين قد نَصَبتْ أغراضها الماجِنة واتَّبعتْ لهَوات الفجور وأطاعتْ نَزَواتها المائعة..
فهذه كلُّها والعىاذ بالله حالاتٌ باطلة؛ وبُطلانها لا لأن الاستماع فيها للمَجلس محرَّمٌ بذاته، وإنما لأن الاستماع فيها عُجِنَ بقصدٍ وفعلٍ محرَّم، فكيف يَفعلها المؤمِن والحسين علىه الصلاة والسلام خَرج ليحاربها! فلا تَكُن أيها المُوالي في عِداد أعداء الحسين من حيث لا تدري، فهو صلوات الله وسلامه علىه القائل: «اتَّقُوا هذه الأَهواءَ التي جِمَاعُها الضَّلالة ومِيعادها النار» [1] .
أما لو مثلاً کان غَرَض المستمَع مُنْضَمّاً للتعلىم في ذات الوقت أن يراه المؤمنون حاضراً بينهم لا بعنوان الرياء، وإنما بعنوانِ إيمانيّة هذا الشعور الفائض مِن عُمق السُّرور بحَشْرِ الذات بين هؤلاء الطيّبين المحبوبين عند الله تعالى وحسابهم له مِنهم؛ فهذا الغرض نبيلٌ شريف لا يُخِلُّ بخُلوص النّيّة.
وكذا ما لو حَضَر وقد خَلط نيّته بقصد تشجيع صديقه الخطيب المبتدِئ، أو صاحِبه صاحِب المَأتم، أو زميله الشاعر، أو دَعْمِ الخطيب الفلاني الصالح وتكثير سَواد الحضور بَيْن يديه، أو استجابة لدعوة مؤمن، أو بقصد أن يَحضر مَجلس أستاذه توقيراً له وأداءً لحقِّه صلةً منه به تقديراً لعطائه إياه وأتعابه في نَشأته وتدريسه وتربيته، أو بقصد أن يَدفع التُّهمة عن نفسه وإساءة البعض باتّهامهم له بُغضه ومُجافاته لهم أو خُلُوِّه عن مُزاوَرة مَجالس الذِّكْر والإيمان، أو لأجل أن يَتبرّك مِن مائدة فلان المؤمن بالأكل مِن زادِه الطاهر ورِزقِه المبارَك، أو ليَجود على شخص ىَتواجد في ذلك المكان، أو ليَتصيَّد لنفسه رزقاً حلالاً مِن المقتدِر الفلاني، أو ليُعَلِّم ويرَبّي أولاده على حضور هذه المَجالِس، أو للعفو عن إنسان يَجد الفرصة الأمثَل في هذه الظروف الروحية والتهذيبية، أو لوصلِ رحمٍ صالح أو لإصلاحه، أو لوصلِ قاطع، أو لتنفيس كُرْبةَ جار..؛ فهذه الأغراض وإن اختلطت بالغاية الأصلية فليست مذمومة ولا مُفسِدة للإخلاص المطلوب، بل إنها تُمَثِّل تكاليف وأغراض عُقَلائيّة وشرعية قائمة بذاتها وتضاف قيمتها الإنسانية وأُجورها الإلهية إلى قيمة الغرض الأصل، بل وحتى لو فُقِد الغرض الأصل معها وتَصَدَّرَتْ بنفسها الغرض والمَقْصَد، إنّ هذه الغايات كلها أهداف لسيّد الأحرار صلوات الله وسلامه علىه وسَجاياه ومعروفه؛ فهو العامل والقائل:
«اعلَموا أنّ المعروف يُكْسِبُ حَمْدا، ويعْقبُ أَجرا، فلو رأيتُم المعروفَ رَجُلاً لرأيتُموه حَسَناً جميلاً يسرُّ الناظرِين، ولو رأيتمُ اللُّؤمَ رجلاً لرأيتموه قبيحاً تَنفر منه القلوب وتغضّ عنه الأبصار. إنّ أجودَ الناس مَن أعطى مَن لا يرجوه، وأَعفى الناس مَن عفا عن قدرة، وإنّ أَوصَلَ الناس مَن وَصل مَن قطع. ومَن أراد بالصَّنِيعة إلى أخيه وجهَ الله تعالى كافاه الله بها في وقت حاجته وصرف عنه من البلاء أَكثرَ من ذلك، ومَن نَفَّس على أخيه كُربةً مِن كُرَب الدنيا نَفَّس اللهُ عنه كُربةً مِن كُرب الآخرة، ومَن أَحسَنَ أَحسَنَ اللهُ إليه، واللهُ يُحبُّ المحْسنِين» [2] .
عرَّف العرفاء الإخلاص؛ فقالوا: هو تجريد القَصد عن الشَّوائب كلِّها. وقالوا: هو تفريغ النِّيّة - أو الدافِع نحو العمل - مِن كلِّ شَوْبٍ إلا الله.
وعرَّفوه بأنه: إفراد الحق تعالى خاصة في الطاعة بالقَصد، والتقرب إليه بذلك خاصة، مِن غيرِ رياء ومن غير أن يمازجه شيء آخر مِن تَصَنُّعٍ لمخلوق أو اكتسابِ مَحْمَدةٍ بين الناس أو مَحبةِ مَدحٍ أو معنى مِن المَعاني. وعرَّفوه بأنه: تطبيق إرادة العبد على إرادة الله؛ أي أنْ يَكون المخلِص ناظراً في كل سعي إلى الإرادة الإلهية ويَتبعها.
وعرَّفوا الإرادة فقالوا: هي جَمْرٌ مِن نار المَحَبة في القلب مقتضِية لإجابة دواعي الحقيقة.
ومقابِل الإخلاص عندهم هو أن يَمزج الإنسان غرضاً آخر يَفرضه؛ كحُب الجاه وطلبِ حُسْن الذِّكر وطَمَعِ ثواب الآخرة والنجاة من عذاب الله.
فما يَفعله السالك ويقوله إنما يَفعله ويقوله قربة إلى الله وحده لا يَشوبه شيء من الأغراض الدنيوية أو الأخروية ﴿أَلا للهِ الدِّينُ الخالِصُ﴾[الزمر 3]؛ أي لا يَكون الدِّين الصافي عن شَوبِ الغَيريّة والأنانيّة مِن رياء وآفة مِن عُجب وتَزَيُّن وغير ذلك إلا بتَفَرُّد الله به وتَوحُّدِه فيه؛ لأنك لِفَنائك فيه بالكلّيّة فلا ذات لك ولا صفة ولا فِعل ولا دين دُونه وإلا لَما خلص الدين وصَفى بالحقيقة ولا يكون لله، فما دامت الغيرية والأنانية باقية والعابد والعبودية والعبادة والإخلاص والدين حاضراً يَكون العمل مَشُوباً، وهذا شركٌ لدى أَرْباب القلوب.
الرتبة الأولى/ إخراج رؤية العمل مِن العمل، والخلاص مِن طلبِ العِوَض عن العمل، والنُّزول عن الرضا بالعمل.
الرتبة الثانية/ الخَجَل مِن العمل مع بذلِ المجهود، وتوفير الجهد بالاحتماء مِن الشُّهود، ورُؤية العمل في نُور التوفيق مِن عَيْنِ الجود.
الرتبة الثالثة/ إخلاص العمل بالخلاص مِن العمل، فتدَعه يَسير مَسير العِلم، وتَسير أنت مشاهداً للحكم، حُرّاً مِن رِقِّ الرَّسْم.
الأول/ هو خلوص الدين والطاعة لله. والثاني/ هو خلوص النفْس لله.
فحقيقته إذاً هي: تصفية العمل عن شائبةٍ سوى الله وتصفية السِّر عن رؤية غيرِ الحق تعالى في جميع الأعمال الصُّوريّة واللُّبّيّة والظاهرية والباطنية.
وكَمال الإخلاص بإيجاز هو: ترْكُ الغَير مطْلَقاً وجعْلُ الإنّيّة والأنانية والغَير والغَيرية تحت قدميك.