منهاج السالك الحسيني «3» توصيات للمستمعين عامّة
فأول التوصيات: الغَرَض. وقد مضى منه: 1 - ضرورة التّفكّر في الغرض وتحديده. و2 - تشخيص الغرض. و3 - توجيه الغرض. و4 - الإخلاص في الغرض. فنتساءل:
هنالك حدود مهمة للإخلاص، وحدودُه تَختلِف مِن عملٍ لآخر، فيَحتاج كثير منا لمعرفتها؛ إذ تشتبه الأحوال في هذه الأمور على كثير من المؤمنين؛ لذا أتعَرَّض لأَهمها مما يَشيع منها في أغلب النفوس وتوجِب حيرة لدى السالِكِ وطالِب الخلوص مِن المَهالِك، سيّما وأن الإخلاص عدوُّ الشيطان الأكبر ومعركتُه اللَّدود؛ وذلك ما يلي:
فمثلاً في الصلاة يَبحث الفقهاء - أعلى الله مقاماتهم - حول أداء صلاة واجبة مع ضَمِّ نِيّة التعليم لشخص؛ فيَستشكِل بعضهم مُفتياً ببطلان الصلاة ووجوب إعادتها، فهُم رغم أنّ التعليم هنا لفرع من فروع الدِّين العظمى ومقصود لوجه الله تعالى إلا أنّ صلاته عندهم باطلة؛ فالقاصِد يَنال ثواب التعليم وثوابُه جسيمٌ عظيم ولكنه مِن حيث خصوص سقوط الصلاة الواجبة عن ذمّته فلا.
ويَبحثون مثلاً في التلفظ بلفظٍ صَلاتي - مستحباً كان أم واجباً - أثناء الصلاة؛ فلو كَبَّرَ المُصَلي تكبيراً في مَحَلِّه ولكن مع غرضٍ آخر مُنْضَم إلى غرضه الأصلي الذي هو أداء الصلاة الواجبة؛ كأن كَبَّر وفي نفس الوقت أراد بهذا التكبير أن يَرد على نداءٍ عارِضٍ لشخصٍ يناديه، سواء كان ذلك التكبير واجباً كتكبيرة الإحرام أو مستحباً كالتكبير الذي يَسبق ركوع الفريضة أو يسبق سجود الفريضة..؛ فإنّ البعض يفتي ببطلان الصلاة كونها اشتملت على نيّة أخرى غير نية أداء الفَرْض الواجب لله تعالى المطلوبة ألفاظه بنحوٍ مستقِل مُفرغ تماماً عن أي ضَميمة أخرى مِن هذا القَبيل حتى لو كانت هذه الضَّميمة بقصد إلفات الحاضِر لشخصٍ سَيَغرق، فأن تنقذ الغريق بها شيءٌ، وأن تؤدي ألفاظ الصلاة بلا ضميمة أخرى شيءٌ آخر، فذاك التلفظ لإنقاذ الغريق يَجعل اللفظ عُرفاً كالكلام البشري الخارج عن كلام الصلاة وهيْئتِها.
کما أنه مثلاً وردت أيضاً روايات تَحد مستثنِية جوابك نداء الوالدَين أثناء صلاة النافلة بکيفيّة معَيَّنة..؛ فيكون ذلك تقييداً من جهة الشرع غير مبطِل للصلاة. بىنما لو صَلَّى بقصد أداء الصلاة ثم وهو يصلي نَظر عامداً لعورة مُحَرَّمة؛ فصلاته من حيث الصّحّة شرعاً صحيحة لا تَبطل؛ أما هل يقبلها الله أم لا؟ فهذا شأنٌ يرتبِط به سبحانه، وهو بخلاف ما لو کان أصل صلاته قائماً على نيّة أنه يصلي لأجل أن يَنظر للحرام؛ فالصلاة باطلة ولا تُقبل. وامتداد نيّة الصوم من طلوع الفجر إلى الغروب، لو تَخَلَّل بينها لحظة - ولو ثانية - نوى فيها عدم الصيام أو تَرَدَّد - لا التردد الذي هو مجَرَّد خُطور في الذِّهن، وإنما التردد المُقِر به المستوطِن في القلب المَمضي مِن المتردِّد فعلاً -؛ فإنّ الصوم يَبطل، بخلاف ما لو نوى أثناء الصلاة أن يَقطع صلاته أو تَردد تردداً واقعياً في إتمامها؛ فلو رَجع لنيَّته وأَتمَّ الصلاة؛ فصلاته صحيحة مادام لم يَتخلل تلك الفترة - فترة نيّة الانقطاع أو فترة التردد الواقعي - مُفسِد للصلاة مِن قبيل وقوع فترة فاصلة طويلة تُخرجه عُرفيّاً عن كونه في حالة صلاة ومِن قبيل أن يَتكلم في تلك الفترة كلاماً خارجاً عن الصلاة حتى لو كان ذِكراً لله حيث أنه حسب الفرض أَوقَعه في فترة متخلِّلة غير مَنْويّة لأداء نفس الصلاة.
ومِن ثُمَّ، إذا جئنا لحدود الإخلاص في غَرَض الاستماع لمَجالِس القراءة، فهو وإن كان أكثر مرونة مِن حَدِّه المطلوب مثلاً في الصلاة باعتبار أنّ أفعال الصلاة مخصوصة بكيفية مُعَيَّنة، بىنما الاستماع فهو باعتباره فعلاً من الأفعال التكوينية والجَوارحيّة؛ بالتالي يلازِم حركة الإنسان ويَتشارك في الأمور العبادية المطلوب فيها تحقيق نِيّة القُربى لله والأمور الغير عبادية التي لا يُطْلَب فيها النِّيّة بنحو الوجوب؛ لذا يَلزم أن نعَنوِن الإخلاص في غَرَض الاستماع بحَدّه المانع من خروجه عن مرضاة الله عز وجل.
وبإيضاحٍ أَجْلى: إنّ الاستماع الغىر تعبُّدي مَثيل الشخص الذي يَغسل ثوباً نجساً بدون نيّة التطهير، فلو كان على سبيل المثال عالماً بنجاسته بمقدارٍ من الدم ناسياً لها فألقاه في النهر دون أن يدري أو ألقاه فيه شخصٌ مُدْرِكٌ لا عِلم له بنجاسته أو رماه في بِئرٍ مُعتصِمة طفلٌ لا إدراك له أو كان مرتدياً له أو ممسكاً به فسقط به في النهر وهو نائم أو ما شئتَ فعَبِّر، فلَمّا رَفعه من الماء وَجد أَثر الدَّم قد زال؛ حَصَلَ التطهير للثوب؛ فإنّ الطهارة تتحقَّق للثوب رغم أنّ الفاعل لم ينوِ أصلاً تطهيره؛ وما ذلك إلا لأنّ التطهير لا تجب فيه نيّة القُربى لله؛ فهو يَحصَل على أيِّ حال؛ نعم لو غسله عن قصد وهو ناوٍ تطهيره لله تعالى انعقدَتْ له النّيّة؛ والثمرة الفارقة بين هاتين الحالتين تكون في أنه في الصورة الأولى لا يَستحق ثواباً؛ أما في الصورة الثانية فببركة توجيهه نيّته واستثماره لها نال الثواب والتقرُّب له عز وجل بابتغائه وجهه سبحانه، وهذا بخلاف ما تُطلَب فيه النِّيّةُ شرعاً؛ فإنّه لا يَتحقَّق امتثال أمرِه بدونها لكونها رُكناً فيه، والشيء بلا رُكنه منهدِم؛ وإلا لو كان يَقوم به وبدونه لَما صحَّ أن يُطْلَق عليه مسمى رُكن؛ وهذا تماماً كلزوم أن يَستمِع المُصَلي يوم الجُمُعة لخطبة النبي أو الإمام أو نائبه فيما لو بَلَغَنا وجوبُ الاستماع.
بالتالي؛ يمكن لنا القول:
1 - في الأمور المنطقية العُقلائيّة والعُرفيّة المتروكة مِن الشرع لتحديدهما، متى ما كان الغرض الصحيح مخلوطاً مُساقاً بنفسه للغرض الفاسد بحيث يَكون مَطيّةً له؛ بَطَل العمل ككل.
2 - ومتى كان الغرض الصحيح قائماً بذاته فأُدْخِل إلى جانبه غرضٌ فاسد لا أنه جُعِل ذاك مَطيّة لهذا؛ فالغرض الصحيح يَبقى صحيحاً والفاسد يَبقى فاسداً.
3 - في الأمور التي تَصدَّ الشارع المقدَّس لجَعْل حدود خاصة لها، متى قَيَّد الشرعُ عملاً خاصّاً بقيدٍ شرعي خاص أو رَفَع عنه قيداً من القيود العرفية؛ وجَب التوقف عند حَدِّه والأداء على طِبْقه.
4 - يَبقى القَبول والنَّماء في كلِّ صحيحٍ بيد الله عز وجل؛ إما أن يَتقبَّله بقَبوله الحَسَن ويُنَمّيه أو يَقبله ولا ينمّيه أو لا يَقبله ويُنَمّيه أو لا يقبله ولا ينمّيه.
ف 1 - كالاستماع لأجل التعلم المقصود للاستغلال.
و2 - كالاستماع المقصود للتعلم والمقصود في نفس الوقت للسرقة أو المقصود في آن من آناته للكذب،
و3 - كالتكبير - المتقدِّم - في الصلاة إجابةً لنداء الوالدين احتراماً وتوقيراً.
تأتي إن شاء الله تعالى.