آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 8:09 ص

كذب الموت فالحسين مخلد

عبدالله الحجي *

التهنئة ببداية السنة الهجرية من كل عام تكاد تكون شبه معدومة لامتزاجها بدموع الحزن والآهات والألم بمصيبة سيد الشهداء أبي الأحرار سبط رسول الله ﷺ أبي عبدالله الحسين بن علي الذي قتل في اليوم العاشر من محرم من عام 61 هـ. يقف القلم عاجزا عن الكتابة في هذه الشخصية العظيمة، وماهذه السطور إلا لتسليط الضوء على بعض المحطات والإضاءات والمبادئ والقيم الحسينية.

منذ أكثر من 1300 سنة ومآتم العزاء لازالت تُعقد ليس لمجرد البكاء عليه تأسيا بجده المصطفى ﷺ الذي بكاه في حياته كما روي عنه في أكثر من مصدر، بل أن ذلك يحط من الذنوب والخطايا ويزكي النفس ويزيدها سموا ورفعة وكرامة، وفيه تمجيد لقضيته السامية التي تحمل كل معاني القيم والمبادئ والأخلاق المحمدية النبيلة. قضية الإمام الحسين مدرسة فيها العَبرة والعِبرة يستلهم منها الإنسان الدروس القيمة في الصبر والإيثار والتضحية والوفاء والإباء والعزة والكرامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونبذ الظلم والعدوان. أيام عاشوراء الحسين تزخر بكم هائل من الثقافة والمعرفة المكثفة خلال أيام قليلة من خطباء متميزين في مختلف المجالات يحتاج الإنسان لأيام عديدة للإستماع إليها والإستفادة منها لإثراء الثقافة ونشر الوعي وتعميق الصلة والمعرفة بأهل بيت الرحمة .

مكانة ومنزلة الإمام الحسين

من هو الحسين الذي تعلقت به القلوب وهامت في حبه وعشقه وأبت إلا أن يبقى مخلد الذكر كما قال وأجاد الشاعر مقداد الهمداني: «كذب الموتُ فالحسينُ مخلَّدْ ** كلما أخلقَ الزمانُ تجدّدْ» مصداقا لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. مكانة ومنزلة الإمام الحسين يبينها الباري جل وعلا في كتابه المجيد في أية التطهير ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، فالحسين هو أحد المخصوصين في هذه الآية ممن أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم وزكاهم. كما يبين منزلته ومنزلة أخيه الإمام الحسن جدهما رسول الله ﷺ في قوله: «الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا» و«الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» و«الحسن والحسين ريحانتاي». وقال في الحسين : «حسين مني، وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا». لايتحير العقل في المعنى المقصود من المقطع الأول من هذه المقولة فالحسين فلذة كبد رسول الله ﷺ، ولكن المقطع الثاني يحتاج إلى التدبر والتفكر لفهم واستيعاب المغزى الذي يقصده رسول الله ﷺ في قوله: «وأنا من حسين»!!

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لم يكن خروج الإمام الحسين لقصد الفساد وإراقة دماء المسلمين وحاشا لمثله أن يكون لديه هذا التفكير السطحي العدواني فهو أجل وأرفع وأسمى وأنزه وأقدس من ذلك وهو أهل لكل ماأطلق عليه جده رسول الله «ًص» الذي لاينطق عن الهوى. فكيف يكون إمام؟ وكيف يكون سيد من سادة شباب أهل الجنة؟ وكيف يحبه الله؟ ويكون هدفه سفك دماء المسلمين الذي لايُرضي الله ولارسوله ولايتقبله العقل والذوق!؟ لقد كان الهدف الأسمى من خروجه هو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما وضح ذلك هو في خطبته حيث قال: «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسدا ًولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ﷺ..»

الاغترار بالدنيا والغدر والخيانة ونقض العهد

لم يخرج الحسين إلا عندما راسله بعض المسلمين وواعدوه بالنصرة وأنهم سيكونون له جند مجندة كما ذكر في إحدى خطبه: «أيها الناس إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم أن أقدم علينا..»

استجاب لدعوتهم وتوجه مصطحبًا معه عائلته من نساء وأطفال، ولكنهم سرعان ماانقلبوا عليه ونكثوا وعودهم وخالفوه وخذلوه حبا وطمعا واغترارا بالدنيا ونعيمها وهذا ماوضحه سلام الله عليه في خطبته يوم عاشوراء واعظا القوم «الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفةً بأهلها حالاً بعد حال فالمغرور من غرته والشقي من فتنته فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن اليها وتخيب طمع من طمع فيها».

وماأعظم ماقاله أيضا في موقف آخر في وصف الناس بأنهم عبيد الدنيا والمال: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محّصوا بالبلاء، قلّ الديّانون». وفي خطبة أخرى عندما لم تجدي الموعظة فيهم أنبهم قائلاً: «تباً لكم أيّتها الجماعة وترحاً أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم» … وواصل خطبته موضحا غدرهم وخيانتهم «أجلْ واللّه غدر فيكم قديم، وشجت عليه اصولكم، وتأزرت فروعكم. فكنتم أخبث ثمر شجٍ للناظر، وأكلة للغاصب».

رفض الظلم والعدوان والذل

وضح الإمام الحسين أنه لم يخرج فاسقا ولا ظالما وإنما كان بحثا عن الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وكان يرى السعادة في الموت والتضجر والتذمر من العيش مع الظالمين كما قال: «لا أرى الموت إلا سعادة والعيش مع الظالمين إلا برما». الله جل جلاله عادل في حكمه ويدعو الناس للعدل لكي ينال كل ذو حق حقه وتنعم البشرية بالإستقرار والسعادة وقد توعد الظالمين وإن أمهلهم وأخر عقوبتهم كما قال جلت وتقدست عظمته: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ.

كما كان من مبادئ وقيم الإمام الحسين رفض الذل والإهانة ومن أبرز وأشهر شعاراته في عاشوراء «هَيْهَات مِنَّا الذِّلَّة، يَأبى اللهُ لَنا ذَلكَ وَرَسولُهُ والمؤمِنون» وأيضا «لا وَالله، لا أُعطِيكُم بِيَدي إعطَاءَ الذَّليل، وَلا أفِرُّ فِرارَ العَبيد». ففي كل المواقف التي يعيشها الإنسان عليه أن يحافظ على كرامته وعزته مهما حدث فالله جل وعلا خلق الإنسان وكرمه وفضله على كثير من المخلوقات ولايرضى له أن يعيش عيشة الذل.. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.

تضحية الإمام الحسين والبكاء عليه

الإمام الحسين رمز للإباء والتضحية والصبر على البلاء والاحتساب إلى الله فهاهو يضحي بإبنه علي الأكبر ويراه قتيلا أمام عينيه وكذلك الحال مع أخيه العباس وباقي إخوته وأهله الذين شهد مصرعهم ووقف وحيدا فريدا مناديا «أما من ناصر ينصرنا، أما من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟» حتى ضحى بنفسه الشريفة وأثخن بالجراح وقتل عطشانا واحتز رأسه وترك جسده الشريف على رمضاء كربلاء تلفحه حرارة الشمس.

الروايات التي تحث على البكاء عليه كثيرة من أهل البيت وليس ذلك مستغربا ولابدعة فمصيبته عظيمة عند الله بما قدمه من تضحيات جليلة، وأول من بكاه جده رسول الله ﷺ عندما أخبره جبرائيل عن مقتله وأراه التربة التي يقتل عليها كما ورد في العديد من مصادر المسلمين العامة والتي يمكن البحث عنها بيسر وسهولة لمن أراد الإطلاع عليها.

ومن روايات أهل البيت قال الإمام الرضا : «انّ يومَ الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعَنا» … «. وقال:“يا بن شبيب، إن كنت باكيا لشيء فابك الحسين بن علي ». وقال: «إن بكيتَ على الحسين حتى تصير دموعك على خديك، غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيرا كان أو كبيرا، قليلا كان أو كثيرا». وورد عن الإمام الحجة المهدي : «فلأندبنّك صباحاً ومساءً ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً حسرة عليك وتأسفاً على ما دهاك …».

سخط الله وغضبه

عندما لم تجدي العبر والمواعظ مع القوم حذرهم الإمام الحسين من غضب الله ونقمته وسخطه فقال: «اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولدا. واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتدّ غضبه على القوم الذين اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم. أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي».

وقال أيضا: «وأراكم قد اجتمعتم على أمر أرى أنكم قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحل بكم نقمته وجنبكم رحمته فنعم الرب ربنا وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد ﷺ ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم فتبّاً لكم ولما تريدون».

ونختم بجزء من خطبة أخته الحوراء زينب التي كانت حاضرة فاجعة الطف وأوجع قلبها ماشاهدته من أحداث جسام: «أتبكون وتنتحبون! إي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدرة سنتكم، ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة. ويلكم أهل الكوفة أتدرون أيَّ كبد لرسول الله فريتم، وأي كريمة له أبرزتم وأي دم له سفكتم، وأيَّ حرمة له انتهكتم، لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء كطلاع الأرض، أو ملء السماء أفعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى، وأنتم لا تنصرون فلا يستخفنَّكم المهل فإنَّه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإنَّ ربكم لبالمرصاد».

فسلام على الحسين الشهيد الذي لم تُراعى بقتله حرمة لجده رسول الله ﷺ الذي أوصى بعترته خيرا. «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ». فسيبقى ذكر الحسين مخلد على مر العصور إكراما لرسول البشرية والإنسانية ﷺ ومواساة له واستنكارا لهذه الجريمة النكراء التي أفرت كبده وأوجعت قلبه وقلب أبيه المرتضى وأمه الزهراء وأهل بيته النجباء .