حوار صريح مع القصيدة المعاصرة
عجيب شأنك - أيتها القصيدة - فقد كنت تترددين على ألسنة الناس كل الناس، وكنتِ نشيد الدهر - وفق تعبير أبي الطيب المتنبي - فمالي أراكِ الآن حبيسة ديوان يطبعه الشاعر من حرِّ ماله، فيوزع نسخه مجاناً على أصحابه المشاركين له في همِّ انطفاءِ صيتكِ وأفول نجمكِ اللامع دهراً في السماء؟!
- لا تعجب مما صرتُ إليهِ - سائلي العزيز - فهذه حال تقلبات الأيام، وكما يقول المثل الشعري الشهير:
”ما طار طيرٌ وارتفع.... إلا كما طار وقع“
- دعينا من الأمثال، واخبريني إنجازاً لوعدك بأن يكون حوارنا صريحاً عن سبب أفول نجمك وانطفاء وهجك أيتها القصيدة.
- السبب يعود إلى من يكتبوني وإلى من يملون عليهم شروط كتابتي.
- أجملتِ الجواب وعليكِ بالتفصيل.
- أما من يكتبوني - يا صديقي المتفقد أحوالي - فلا شخصية لهم، يخضعون لإملاءات النقد الموجَّه ويطرزون حروفي وفق التصاميم المعروضة من قبل نقاد هذا العصر.
- الناقد خبير، فما المشكلة في استفادة الشاعر الناشئ من خبراته وتوجيهاته؟
- عزيزي عن أية خبرة تتحدث وعن أي ناقد..!، لقد صار النقد يُستورَد من الجانب الغربي، وهذا الناقد الخبير لا يعدو كونه ناقلاً مروجاَ لمفاهيم ورؤى طبقها الشاعر إرضاءً للنقد المذكور، فاختنقت تلقائيته وبردت حرارته كما يبرد الجسد حين تخرج منه الروح، واختنقتُ أنا فولدت ميتة، والناس يعجلون في دفن الميت، فلا تستغرب حين أُنسى وينطفئ ذكري.
- والحل..؟
- الحل في عودة الشاعر إلى نفسه والانطلاق منها بلا شروط تفرض عليه من قبل النقد الموجه، فالشاعر ذو الشخصية هو من يلفت الأنظار، ويخلق التيار، وبتناول شعره بالدرس ينتعش النقد ويطير بالقصائد كما تطير به الأشعار.
- أراك تلجئين إلى السجع في إجابتك السابقة وأنت أم الوزن سيدة القافية..!
- السجع والقافية مصدران مهمان من مصادر الموسيقى الداخلية للنثر والشعر اللذين يكتسبان عذوبتهما بمقدار توفرهما على الموسيقى الداخلية.
- والوزن؟
- هو يمثل الموسيقى الخارجية في الشعر وحين تغتني حروف البيت بالموسيقى الداخلية وكلماته تتدفق بموسيقاها الخارجية، فلا تستطيع حين تقف على نص على الصفة تلك إلا أن تقول: الله.. الله..!
- الله.. الله على لباقتك - أيتها القصيدة - فما تقولين في قصيدة النثر؟
- تعني القصيدة التي روج لها أصحاب مجلة شعر؟
- نعم
- أنعم الله عليك صديقي الحنون، فهذه الحركة من شواهد الاتجاهات المستوردة التي تحدثنا عنها سابقاً.
- وما الضير من الاستيراد؟
- لا ضير منه إن كان يمثل حاجة ملحة تعوض الإنسان عما يفتقده، كما هو الأمر في استيراد الصناعات الحديثة.
- فإذا كانت الأساليب وفنون الآداب فيها حداثة عندهم، فإن نقلها يمثل حاجة أيضاً. أليس كذلك؟
- إن نثرنا القديم غني غني فيه من التكثيف وسحر الغرائبية وفيه من التوازي والسَّجع اللذين يغذيان الموسيقى الداخلية، وفيه ما فيه من تقنيات تغنينا عن تقليد ممتهني الاستجداء في نعت أنفسنا بالفقر والفاقة لنمد أيدينا إلى سوزان برنار وأضرابها من الخواجات.
- تابعي تابعي، فإني أسمعكِ باهتمام.
- يا صديقي إن الانبهار يقود إلى التقليد، ولا يخلّف سوى نصوص رديئة، والساحة أمامك في شأن قصيدة النثر حين نسجت على منوال مروجيها المستغربين، والأمر أكبر من الشكل، فالرؤى المخالفة لقيمنا ساهمت مساهمة كبرى في انطفاء وهج قصيدة الوزن قبل قصيدة النثر التي سألتني عنها.
- فالعلاج في رأيك يكون في العودة إلى الذات؟
- الذات موجودة ولا تتطلب حجز تذكرة عودة، بل المطلوب هو الانطلاق منها دون الالتفات إلى النقد الموجه، كما تتطلب إزاحة الركام الهائل من الأعمال الشعرية التي صار النقد الموجه ينعت أصحابها بالشعراء الكبار ليلفت إليهم ويغري الشعراء الجدد بهم ليحذوا حذوهم، مما يبقيني أنا صاحبتك القصيدة التي تتفقدها وتسأل عنها وتهتم بها في لحدي الذي بنى عليه شحاذو الأدب والنقد من الأغيار برجاً عاجياً أو ناطحة سحاب خوفاً من انبعاثي وخروجي إلى الحياة من لحدي، فخروجي يقلقهم ويعريهم ويريهم أحجامهم حين ينشدني الدهر وحين يبدعني أبو محسَّدي المحسود من قبلهم على شخصيته وعلى اعتداده بنفسه وعلى قصيدته التي حاربوها، لأنهم ينزعجون من سطوتها وهيمنتها متى ما انطلقت وصارت أنشودة الدهر وحلاوة الناس التي يتناولونها في مسيرة حياتهم الطويلة، فهي تعالج مرارة أتراحهم كما تزيد من حلاوة أفراحهم حلاوة لا يشعر بلذتها إلا متذوقوها بقدر ما يشعر الإنسان أي إنسان بمذاق الحياة...
- وصلت الفكرة بما قل ودل من الكلام، فشكراً لك أيتها القصيدة العزيزة على إجاباتك الصريحة التي لم تجاملي فيها من اعتادوا أن يُجاملوا، وللمجاملة اعتباراتها وسياقاتها.. وفي الختام هل لك بأن تختمي الحوار بنص شعري أعجبك؟
- أختم حوارنا بدعوة الشعراء الجدد إلى النهل من التراث وإلى الإصغاء إلى الرؤى والموسيقى الداخلية العذبة والمشرقة في النص القرآني وفي نهج البلاغة وأدب الدعاء المأثور وكتابات المنفعلين بتراثنا العظيم.
- طلبت منك أن تختمي الحديث بنص شعري فدعوت الشعراء الجدد إلى النهل من التراث وأشرت إلى الجانب النثري منه وأهملت ذكر الشعر أيتها القصيدة..!
- الرؤى تُستلهم مما ذكرت عزيزي، وليست المعاني مطروحة في الطرقات كما يقول الجاحظ.
- تتطرقين إلى مقولة من مقولات الجاحظ أيضاً..! كأن ذاكرتك نثرية وليست شعرية أيتها القصيدة..!!
- الغصن الذهبي وما في سياقه من نثر هو ذاكرة عديمي الشخصية من الشعراء والنقاد الذين تم الإشارة إليهم في الحوار.
- تقصدين أن المعركة معركة رؤى.
- هي كذلك، غير أن رؤانا ذات غنى في إطارها الفني بعد الروحي، ورؤاهم - إذا تركنا الحديث عن الجانب الروحي - فقيرة فنياَ ولا مقارنة بينها وبين رؤانا في النصوص التي أشرت إليها.
- على كلٍّ نحتم الحوار ببيت شعرٍ أيتها القصيدة.
- أذكر - تلبية لرغبتك أيها المحاور العنيد - بيت الجواهري الذي يقول:
”ويا واصلاً من نشيد الخلود ختام القصيدة بالمطلع“
- الله.. الله، فاختيارك لهذا البيت يدل على ذكائك اللماح - أيتها القصيدة - فقصيدتنا تختم مسيرة تكاملها هذه الأيام وإلى ما شاء الله حين تنطلق من مطلعها الذي يجسد أصالتها وارتكازها على تراثنا العظيم الذي أغناها روحياً ووفر لها من الفنيات التي أكسبتها العذوبة، والعودة إليها يشكل انطلاقة تَمثّل لا عودة نكوص مثل نكوص من يسترقون رؤى الأغيار كما يسرق المال والمقتنيات اللصوص.
- صرت تسجع أيها المحاور الحصيف..!
- هو سجع لا كسجع كهان معبد الجانب الغربي على كل حال.
- لم يكن حديثنا في إدراك روح الأدب وروحيته منصباً على الجهة والخرائط الجغرافية أيها المحاور العزيز.
- كما تقولين - أيتها القصيدة الحبيبة - فالانطلاق من ذاتنا ليس انطلاقاً من الجانب الشرقي بلحاظ المكان، بل هو استخراج للكنز الذي تحت الجدار؛ فأبونا صالح، ومكنوز ذواتنا يصلح للتحليق في سماوات الإبداع، فلا بد أن تعود إلى الحروف روحها ولا بد أن يعود إلى الكلمات الوجدان، وعلى الزمان يكون الرهان.
- عدت إلى السجع أيها المحاور الحصيف..!
- يا لطيف.. يا لطيف..!
- لطفاً بشعرائنا الشباب وأدبائنا ونقادنا الجدد يا لطيف.
- يا لطيف.. يا لطيف..!
- يا لطيف....