لو خُيّرت بين عليّ والجنة فما تختار؟
لو خُيّرت بين عليّ والجنة فما تختار؟
سؤال يحمل اجابة صعبة ومعاني مختلفة وفي الرواية المتداولة ان صح سندها ان سلمان الفارسي اجاب بجواب ربما لا يستوعبه العقل وقد يرفضه كثيرون لكنه اختار ما نود ان نتفهم له تخريجا مناسبا لجوابه القصير حينما قال:
”وما حاجتي لجنّة ليس فيها علي؟“
في قصر هذه الكلمة معاني واسعة من البحث والفهم والتدقيق ولا يمكننا ان نمر عليها دون ان نتوقف على فهم مباني علمية ولغوية تفتح لنا آفاق فهم المراد الاقرب لما يمكننا تصويره من خلال مفردات الكلمة وربما نقتصر على بعض الاشكالات المهمة ونختصرها وهي:
1 - هل ان عقل الانسان يسعى للجنة او الابتعاد عن النار؟
2 - هل هناك صنف انساني يسعى لرضى الله سبحانه دون النظر الاولي للجنة او النار؟
3 - هل هناك جنان بعدد افراد الانسان ويوحدها لفظة جنة الشاملة للجميع؟
4 - هل يفرق المعنى بين الحمل الحقيقي والمجازي على مضمون النص؟
5 - هل ان لفظة ”ما حاجتي“ تعني ”لا اريد“ او تعني عدم تحقيقها لكامل رغبتي؟
في الاجابة على النقطة الاولى فان الانسان في واقعه يبحث عقلا عما يبعده عن الضرر المحتمل فكل شيء بالنسبة اليه يكون بعيدا عن النار وما يحصل عليه من نعيم غير النار فهو في مرحلة ثانية، وهذا الامر نلاحظه في طبيعة حياتنا فان الانسان اول ما يبتغي هو ان لا يصل الى مرحلة الضرر لكنه بعد ذلك يسعى لما يحقق له الاستقرار والراحة ولو ان انسانا واجه حريقا في بيته فان اول شيء سيعمله هو خروجه سالما مع اهله لكنه بعد اخماد الحريق سيبحث عن حاجياته المحروقة وما بقي منها.
بل نلاحظ في الترتيب القرآني دلالة ايضا لهذا المفهوم ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. آل عمران 185
اما النقطة الثانية فالاجابة عليها ب ”نعم“ فاصناف الناس حسب قربهم من الله وغاياتهم القصوى منه تختلف باختلاف مستوى وجوده سبحانه في نفوسهم وفرق بين عبادة دافعها الله واخرى البعد عن النار واخرى الجنة ونلاحظ في الكلمة المنسوبة لامير المؤمنين : «إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ» بل نجد في الكلمة الاخرى المنسوبة اليه : «إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، ولكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبتدك» فان العبادة التي تكون لله وحده سبحانه دون النظر الى النار والجنة هي اعظم العبادات لما فيها من الفناء في الرب المعبود.
والقرآن يشير الى اعلى مراتب النعيم الالهي وهو رضى الله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ”وَرِضْوَانٌ“ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ «التوبة 72»
النقطة الثالثة الجنة ليست نوعا واحدا وليست درجة واحدة وانما هي انواع ودرجات فالقرآن يشير الى انواعها بانها جنان وليست جنة واحدة، منها قوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم ”جنات الفردوس“ نُزُلاً﴾ وقوله تعالى ﴿إلا عباد الله المخلصين، أولئك لهم رزق معلوم، فواكه وهم مكرمون، في ”جنات النعيم“﴾ والعنواين متعددة ك ”جنات عدن“
ايضا الجنة لها درجات كقوله تعالى: «لكن الذين اتقوا ربهم لهم ”غرف من فوقها غرف مبنية“ تجري من تحتها الأنهار» ونلاحظ ايضا «ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على ”سرر متقابلين“»
النقطة الرابعة اذن لدينا جنات وليست جنة واحدة ودرجات وغرف وكل شخص له مرتبه حسب عمله ولو رجعنا الى كلام سلمان «رض» فاذا حملنا ”ال“ في الجنة على ”ال“ الجنسية فالاصح هو توجيه الكلام على المجاز والمبالغة لانها تعني مطلق الجنة بمعنى انني لو حصلت على الجنة دون علي فلن اختارها دونه، وان حملنا ”ال“ على العهدية بمعنى جنتك فلا مانع من الحمل الحقيقي لان التعبير القرآني نَوّعَ الجنان بجمع لفظة الجنة كقوله تعالى ”جنات الفردوس... جنات عدن... جنات النعيم“ أي ان هناك جنانا متعددة وهذه الاوصاف ليست على نحو وصف المفرد بميزات مختلفة كقولنا زيد كريم شجاع ناجح بل هو تنويع المفردات التي تمثل الجمع كقولنا بيت كبير وبيت ابيض وبيت قريب ونقصد بذلك عدة بيوت ولعل قوله تعالى ﴿سرر متقابلين﴾ و﴿غرف مبنية﴾ تفيدنا القرينة على هذا التعدد والاختلاف كما نراه من تعبيرات في صفات الجنان واصنافها.
بالاضافة الى ان في الجنة درجات ولكل شخص جنته حسب مستوى طاعته كما في قوله تعالى: ﴿انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا﴾ ونلاحظ في دعاء الندبة ”وشيعتك على منابر من نور مبيضة وجوههم حولي في الجنة وهم جيراني“.
النقطة الخامسة لذا يمكننا تقريب المعنى ان الجنة التي تكون بعيدة عن درجات علي ليست محل حاجتي والتعبير بحاجتي بمعنى انها لا تحقق رغبتي النفسية وليست بمعنى عدم ارادتي للوصول الى الجنة اي رفضي لتلك الجنة، فلم يعبر بلفظة لا اريدها او لا اريد دخولها بل عبر بلفظة حاجتي أي عدم تحقيقها لكامل رغبتي وهي اقرب لتفسير المعنى الذي ذكرناه بمعنى انني اريد الجنة القريبة او التي فيها علي .
وفي الدعاء: اللَّهُمَّ كَما آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ صَلّى الله عَلَيهِ وَآلِهِ وَلَمْ أرَهُ فَأرِني في الجِنانِ وَجْهَهُ، حيث ان هذه الامنية تعني درجات عليا لا يحصل عليها كل شخص والله العالم.