سياحة فكرية في جبل أولوداغ
بورصة التركية تقذف بي نحو الحسن الفعلي والحسن الفاعلي والأثر التكويني للأعمال الصالحة.
قبل أيام قليلة كنت وعائلتي الصغيرة في زيارة إلى بقعة ساحرة من بقاع الأرض الجميلة للاستمتاع بطبيعتها الساحرة وأجوائها المنعشة العليلة، والفرار من حرارة صيفنا اللاهب، المشبعة بالرطوبة العالية التي لا تطاق، الباعثة على الركون والانزواء في المنزل.
في زيارتي لمنطقة بورصة قصدت جبل أولوداغ «uludag» عبر التلفريك، وعند وصولي إلى قمة الجبل شعرت بشعور غريب يتسم بالبهجة والحبور من روعة الجو والمنظر، فعشت في تلك اللحظات متعتين: متعة السياحية الترفيهية ومتعة السياحة الفكرية التأملية التي ولدها الجو العليل والمنظر الرائع، حيث تولدت في صقع ذهني ثمة تساؤلات فكرية وفلسفية لها علاقة بالعدل الإلهي، وكان أبرزها التساؤل التالي:
نحن نعيش في صقع من أصقاع هذا العالم، يتسم صيفه بالحرارة اللاهبة والرطوبة العالية، وقد عانى أجدادنا وأباؤنا وكابدوا ما كابدوا من جمرة قيض لا تطاق قبل اختراع جهاز التكييف على يد المخترع الأمريكي المهندس ويليس كارير، إذ باختراعه العجيب والمميز أسعد سكان المناطق الحارة ورفع عن كاهلهم معاناة الحر الشديد وحسن أمزجتهم وحفزهم على زيادة الانتاج وكفاءة العمل والاستمتاع بمباهج الحياة في ظل تلك النسمات الباردة العليلة المنبعثة من ذلك الجهاز.
ومع اتساع رقعة النشاط الصناعي غير المسبوق في العالم، الذي أنتج تلوثا وانحسار الرقعة الخضراء من الأرض، برزت ظاهرة التغير المناخي والاختلال البيئي بشكل سافر. وببروز هذه الظاهرة بات الإنسان بأمس الحاجة إلى مايخفف عنه آثارها وما يقلل من وطأتها عليه.
من هنا نسأل: هل السيد كارير - الذي قدم للبشرية اختراعا نقلها من مصاف إلى مصاف آخر يتسم بكفاءة العمل وزيادة الانتاج وجعلها تشعر بالسعادة والحبور وتعيش الرفاه - لا يستحق الرحمة والغفران لكونه إنسانا غير مسلم، بل مآله الخلود في النار، انطلاقا من الآية الكريمة: «و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه»؟
هل عدم مكافأة أمثال كارير الذين أفنوا حياتهم من أجل سعادة البشرية قاطبة من خلال منجزاتهم الرائعة ينسجم مع فكرة العدل الإلهي المنبثقة من الرؤية القرآنية، يقول الله تعالى في محكم كتابه: «و من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره»؟
هذا التساؤل أحاول تسليط الضوء عليه من خلال مرتكزين:
المرتكز الأول: الحسن الفعلي والحسن الفاعلي: عندما تتصدق على الفقير، فعملك هذا ينطوي على حسنيين: حسن في الفعل المتمثل في التصدق على الفقير والمحتاج، وحسن في الفاعل إذا تصدقت بنية صادقة لا يشوبها رياء أو سمعة أو من أو أذى.
فمن هذا المنطلق عندما نحلل ما قام به السيد كارير نجد بأن صنيعه ينطوي على حسن فعلي المتمثل في عمل بر نحو الإنسانية، وقد ينطوي على حسن فاعلي إذا كان ما قام به بنية خالصة ليس بدافع الأنا والشهرة. فمتى ما امتزج الحسنيان في فعل، فمن الطبيعي استحقاق فاعله إلى المجازاة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك: «إن الله لا يضيع أجر المحسنين» يقول المفكر الإسلامي الشيخ مرتضى المطهري في هذا الصدد:
«نعتقد بجد أنه كلما صدر عمل لغاية الإحسان وخدمة الناس لن يكون في مرتبة العمل الصادر بدافع الأنا فقط، إذ أن الله - بطبيعة الحال - سوف لا يضيع أجر مثل هؤلاء الأشخاص، فقد ورد في كثير من الروايات الموجودة في مصادرنا أن بعض المشركين من أمثال «حاتم الطائي» لن ينالهم العذاب رغم شركهم، وذلك بسبب ما قاموا به من أعمال الخير في الحياة الدنيا أو أنهم سيخفف عنهم العذاب».
ويقول أيضا:
«إن أعمال الخير الصادرة عن الأفراد الذين لا يؤمنون بالله والقيامة، والذين يقولون بوجود شريك لله أحيانا، تستوجب تخفيف العذاب عنهم، وربما رفع العذاب أحيانا... وأما الذين يؤمنون بالله والآخرة، وتصدر عنهم الأعمال بقصد التقرب إلى الله، مع إخلاص النية، فإن أعمالهم ستكون مقبولة عند الله، ويستحقون عليها المكافأة والجنة سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم».
المرتكز الثاني: الأثر التكويني للأعمال الصالحة:
الأعمال سواء كانت صالحة أو سيئة لها آثار تكوينية، فالأعمال الصالحة آثارها التكوينية تتمثل في نورانيتها وضيائها وبهائها، والأعمال السيئة آثارها التكوينية تتمثل في ظلمتها وكدرتها وحلكتها.
وعندما نحلل ما صنعه كارير من خلال هذا المرتكز، نجد بأن عمله الصالح اتجاه الإنسانية له أثر تكويني لا يمكن رفعه أو إزالته، ولكن في الوقت نفسه لا يمكننا أن نتغافل عن الأثر التكويني للكفر.
بعد اتضاح هذين المرتكزين، هل يمكننا القطع والجزم بأن أعمال أمثال هؤلاء الصالحة كسراب بقيعة، وأن أصحابها لا ينالون مكافأة من الله على ما قدموه للبشرية؟
ليس بإمكاننا البت والجزم في هذا الأمر بل هو موكول إلى الله الذي لا يضيع أجر المحسنين وآخيرا أقول في هذا الموضوع:
علينا أن نثابر ونجد في خدمة الآخرين بنية خالصة ولا نلوثها بالأنا وبكادورات الرياء والسمعة والأذى لتكون أعمالنا متضمنة الحسن الفعلي والفاعلي في آن واحد ونحصل على قبول الأعمال وجزيل المكافأة وعظيم الثواب.