آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 1:20 م

هويَّة كونيَّة..

حسن السبع صحيفة اليوم

لم يخطر على بال الفيلسوف ديوجين حين قال: «لست إغريقيا، أنا مواطن عالمي» هذه الطفرة التكنولوجية التي جعلت العالم قرية كونية كبيرة. كان ديوجين يعبر عن شعوره بالانتماء للإنسانية بمعزل عن التعصب والانغلاق والتعالي العرقي والثقافي.

لكن العلم وما نتج عنه من تطور تكنولوجي قد حقق تلك العبارة، ولو على المستوى المادي، بعد أن سهلت التكنولوجيا سبل التواصل، وطوت المسافات، وقربت البعيد، ووحدت طرق وأساليب العيش المادي. وتشابهت، تبعا لذلك، فنون المعمار ووسائل النقل، وطرق الترفيه، وغزت العالم الأزياء والوجبات العابرة للقارات، وتقاربت إلى حد ما نظم الإدارة والحكم والتعليم والصحة والاقتصاد. أصبحنا سكان قرية كونية كبيرة. كثيرون أولئك الذين رددوا عبارة ديوجين. كانت حلم الفلاسفة والشعراء. غير أننا سنكون متفائلين أكثر مما ينبغي لو أسقطنا من حساباتنا تلك الفواصل والحدود التي تمثلها الخطوط المنقطة على خرائط «جوجل إيرث»، ناهيك عن النَّزَعات الانفصالية التي ترسم حدودا وفواصل جديدة. وسنكون مبالغين، كذلك، لو اعتقدنا أن ذلك التقدم التكنولوجي سيقلص، وبالسرعة نفسها، تلك الحدود والاختلافات الثقافية. فما زال الوقت مبكرا للحديث عن الانفتاح على التأثيرات الناتجة عن التفاعل مع الثقافات الأخرى. ومن أبرز الأسباب التي تعيق ذلك التقارب أن التقدم الثقافي لا يواكب التقدم المادي السريع. ولذلك ستبقى فجوة ما قائمة بين ما هو مادي وثقافي.

مع ذلك، يرى المتفائلون أن التكنولوجيا التي حولت العالم إلى قرية كونية سوف تساهم في خلق وعي كوني؛ قد يكون بديلا للوعي القومي الضيق. «من لا حدود له، لا مستقبل له» هذا ما يقوله ريجيس دوبريه في كتاب له عنوانه «في مديح الحدود». ويبدو لي أن المؤلف لم يقصد بعبارته مديح الانغلاق والعزلة والانكفاء على الذات، بقدر ما كان يرى أن الانفتاح على العالم لا يعني التنازل عن الثقافة الخاصة. أن تكون مواطنا عالميا يعني أن تؤمن بالقيم الإنسانية المشتركة، وأن تعمل على ترسيخها، وأن تكون قادرا على احتضان العالم بكل ما فيه من تنوع ثقافي، وأن تصغي لصوت الشركاء الذين يبحرون معك على متن مركب واحد. وهو أمر لا يستطيع الوفاء به شخصٌ تصح عليه عبارة إريك هوفر الساخرة: «إن حب الإنسانية كلها أسهل على المرء من أن يحب جاره»! قولٌ يصدق على أولئك الذين يتبادلون الضغينة على مواقع التواصل الاجتماعي لأسباب لا علاقة لها بالحاضر.

إن حب العالم يبدأ من الرقعة الجغرافية الصغيرة التي ننتمي إليها بكل ما فيها من اختلاف وتنوع عرقي وثقافي، ثم يمتد ليشمل العالم أجمع.