العلم والإيمان أساس الكمال الإنساني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ثم اللَّعن الدَّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾[1] .
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيّتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
في الحديث الشريف عن الإمام الرضا : «إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، ونشاطاً وفتوراً، فإذا أقبلت بصُرت وفهمت، وإذا أدبرت كَلّت وملّت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها» [2] .
وفي الحديث عن الإمام العسكري أنه قال: «قيل لأمير المؤمنين من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى؟ قال: العلماء إذا صلحوا. قيل ومن شر خلق الله بعد إبليس وفرعون ونمرود، وبعد المتسمِّين بأسمائكم، وبعد المتلقبين بألقابكم، والآخذين لأمكنتكم، والمتأمرين في ممالككم؟ قال: العلماء إذا فسدوا، هم المظهرون للأباطيل، الكاتمون للحقائق، وفيهم قال الله عز وجل: ﴿أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُوْنَ إلا الَّذِيْنَ تَابُوْا﴾[3] »» [4] .
الفقيه في وسط الأمة، هو الذي يعيش أهل البيت ويعيش الله تعالى قبل ذلك ضمن إطار محدَّد معلوم، هو الكتاب المنزل المحفوظ، والسنّة المطهرة المنقاة المصطفاة، وما وراء ذلك من اجتهاد المجتهدين يشترك فيه الكبار ممن وصلوا، ومن هو دون ذلك.
فالفقيه كي يصل إلى ما يجعل هذا العنوان ينطبق عليه، لا بد أن يمرّ بمراحل كثيرة، وأن يستقطع الكثير من الوقت، على أن يكون ذلك ضمن ضابطة توصله إلى حيث أراد أن يصل، حيث الساحل الذي يجد فيه ضالته، ليكون فقيهاً بما تعنيه الكلمة من معنى، كما أرادته السماء قبل أن يتعلق به أهل الأرض.
إن الفقيه في مسيرته للوصول إلى مرحلة الفقاهة يحتاج أن يكون قد بنى نفسه بناءً متكاملاً أصيلاً من خلال الروافد الحوزوية والقنوات المفتوحة، ففي الحوزة دروس مهمة جداً وعميقة، وإن دخل عليها عامل التعرية في الفترات الأخيرة، بل ربما دخل في بعض الحوزات الصغيرة إلى الترشيق القاسي الذي قد يودي بها في نهاية المطاف إلى أن تشيع إلى عوالم أخرى يحسن بنا أن نقرأ عليها الفاتحة.
ففي اللغة العربية وفروعها الستة عشر، غاب الكثير من العناوين ولم يبق إلا أقل القليل، وحتى هذا الباقي القليل شُذّب واختصر حتى بات يسير في وسط الحوزة أعرج.
كان بعض الفضلاء في خدمة السيد الإمام «قدس سره»، فسأله: أي الكتب أقرأ في البلاغة؟ المختصر أو المطول للتفتازاني؟ فقال له السيد الإمام: لا تختصروا العقول.
فما بال الوضع اليوم يسير نحو الاختصار بل والاستبدال؟ أي استبدال المتون الأصيلة بمتون مفرّغة حتى من أبسط عوامل البقاء وتصحيح المقال وتقويم اللسان. فبعض الكتب المدروسة اليوم في الحوزات العلمية أشبه بالحليب المستخلص منه الدسم الذي لم يبق منه إلا ما يصدق عليه عنوان الحليب. ولا أرغب في الإبحار في هذا الصدد، ولكن على هذه قس الكثير من سواها.
فمن يرغب أن يكون فقيهاً عليه أن يمسك بالمتون الأصيلة، وأن لا يضعف أمام ما يوجبه عليه البحث العلمي من بذل الجهد، الذي قد يكون مضنياً في بعض محطات التوقف فيه.
هكذا كان العمالقة من أئمة الفكر والفقاهة والثقافة الأصيلة كالشيخ المفيد «قدس سره» وأمثاله في قائمة تطول، لتضع رحالها عند الشيخ الأعظم الأنصاري، حتى زماننا الذي شخصت فيه قاماتٌ بنت نفسها بناء صحيحاً محكماً، وكانت قواعدها مستمدة من ذلك النبع.
والأمر الثاني بعد علوم العربية هو الجانب القرآني المغيب بشكل واضح، بل إن من يدنو أو يقترب من دوائر البحث والمناقشة فيه والتدبر والاستنطاق يعتبر ممن يبحث عن الكماليات في علوم الحوزة، وينأى بنفسه عن أصول المعارف فيها، لا لشيء إلا لأنه لا يمتلك القدرة على فكّ شفرات الكفاية للآخوند الخراساني «رحمه الله»، أو لا يستطيع الإبحار في مكاسب الشيخ الأنصاري «رحمه الله».
وليت شعري! هل ما نحتاجه في فهم مفردات الكفاية والمكاسب كدروس سطح في الحوزة العلمية أكثر عمقاً ودقة مما جاء في كتاب الله؟ هذا الكتاب المحكم المنزل من السماء المحفوظ الذي باشر سمع النبي ﷺ واستقر في قلبه، وتكفلت السماء بحفظه في البناء والجوهر.
الكتاب الذي تشع الأنوار من كل حرف استخدم في بنائه وتركيبه، فما من حرف قرآني إلا وينطوي على كنوز من العلوم والمعارف لكنها تحتاج إلى الآلية التي تمكّن الإنسان إذا ما أراد أن يكون قرآنياً واعياً متدبراً عاقلاً أن يهيئ نفسه ويجمع تلك الآليات.
فالتفسير هو الطريق الموصل إلى هذا العلم الثرّ، وهذه الأسرار المودعة، والشفرات التي لم تفكّ إلى اليوم رغم الجهود المضنية، فلم يحظ كتاب سماوي ولا أرضي بما حظي به هذا القرآن الكريم من العناية، ولكن رغم ذلك لا زال إلى يومنا هذا يستحث الهمم ويدعو الإنسانية قاطبةً لتستنطقه وتنهل من علومه ومعارفه، ورغم ذلك ومع شديد الأسف، عندما يكون الإنسان موصوفاً بالمفسر للقرآن، أو يستقطع من وقته شيئاً في سبيل الاقتراب من التدبر فيه، يصبح في نظر البعض غير مهتم بالشأن الحوزوي، وهل الحوزة إلا بالقرآن؟ وهل يمكن لها أن تبقى وتعطي إلا من خلال ما يعطيه القرآن؟ بل هل الإسلام إلا القرآن الذي نزل على النبي محمد ﷺ؟
لقد كتبت المئات من التفاسير المطولة والمختصرة، من فك المعاني في بعدها اللغوي، إلى استنطاقها بالسير العرفاني النظري الدقيق، وبين هذا وذاك ما بين الأرض والسماء من حيث القدرة في الفهم والاستنطاق. لذا علينا أيها الأحبة أن لا نستصعب ما ينقل هنا أو هناك، حيث إن المسارات تختلف فيما بينها والمشارب تتعدد، والمدارس لا يمكن أن تحصر في مدرسة، كما أن العقول لا يمكن أن تحصر في عقل واحد، فمن تقدم في عقليته ننحني له إجلالاً وإعظاماً، ولكن ينبغي أن لا نجعله يدخل في دائرة الغرور إلى الحد الذي يدعوه إلى إلغاء ذاته بعد حين، إنما علينا أن نقف إلى جانبه، فبقدر ما نستفيد، نوجد حالة الحصانة لتلك المشاريع.
أيها الأحبة: إن القرآن الكريم مع شديد الأسف إلى يومنا هذا لم يشغل المساحة التي أرادتها السماء له حتى في المكون الصغير الخاص «الحوزة العلمية» ناهيك عن المساحات الواسعة في المجتمع. فقد ودّعنا شهر رمضان «ربيع القرآن» ومنا من ختم القرآن عدة مرات، ومنا من لم يوفق لأكثر من مرة واحدة، ولكننا دخلنا في الشهر الثاني بعد شهر رمضان، فكم ختمة قرأنا؟ وكم سورة أنهينا من المطولات؟ وهل أننا نعيش القرآن فعلاً ويعيشنا في واقعنا؟ أم أن علاقاتنا معه في دائرة الفواتح ومراسيم العزاء على الموتى؟ ومع ذلك ربما لا نقرأ سوى صفحة واحدة، ونجعل فيها المنة والفضل على من جئنا نعزي فيه أهله وذويه.
هذا هو حالنا اليوم الذي رسمناه بأيدينا، ونقشناه وثبتناه، بل حتى من ذوي الرحم الأقرب من الميت نفسه لا يأمل الميت منهم في عالم ملكوته أن يصله من روافد القرآن من الأجر والثواب ورفع الدرجات أكثر من ثلاثة أيام، ثم يدخل في دائرة النسيان، ويكون نسياً منسياً. وهذا في دائرة البركة فما بالنا إذا ما طرقنا الباب ووجهنا البوصلة إلى مساحات التأمل والتدبر والاستنطاق والاستفادة العلمية والمعرفية والسلوكية العملية؟
في الحديث الشريف عن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله، ولكن لا تبلغه عقول الرجال» [5] .
بالأمس عندما يريد أحدنا أن يقرأ ويتأمل يقال له: من أنت؟ ومن عسى أن تكون؟ أليست هذه العبارات تصدق أيضاً على من تقدم ومن يأتي ومن هو حاضر اليوم؟
أيها الأحبة: إن الشريف هو من يحترم نفسه ومكوّنه والقدرات المودعة فيه، وما من إنسان إلا وله نصيب من هذا اللطف والفيض والنعمة، غاية ما في الأمر أننا نختلف في مساحة الإفادة والتفعيل، فربما يذهب بها البعض مسافة هنا بينما يتعثر في الذهاب بها إلى مسافات هناك.
فالقرآن الكريم فيه جلاء للحقائق إذا ما أردنا ذلك، ووصولاً واستقراراً في حياضها إذا ما أردنا أيضاً.
والأمر الثالث الذي لا بد للفقيه منه: الدراسة والغربلة الجادة للموروث الديني الواصل إلينا من مدرسة الحديث، ونعني بذلك أحاديث النبي ﷺ وأهل البيت .
ولا بد هنا من توقف، فما وصل إلينا من كمٍّ هائل من الأحاديث يضعنا على مفرق طرق، ويستطيع أن يقف على حقيقة الأمر من لا يتمتع بشوط بعيد في العلم والمعرفة ناهيك عمن تقدموا في ذلك. فهذه الأحاديث التي تكسر حاجز مئات الآلاف، أليس من حقنا أن نسأل: متى قيلت وصدرت؟ وهل يستوعبها الزمن؟ وهل هذا يحتاج إلى علم ومعرفة؟.
متى تحدّث النبي ﷺ بهذا الكم الهائل من الأحاديث؟ هل في مكة أو المدينة أو غيرهما؟
إن آيات القرآن الكريم لا تتجاوز ستة آلاف وستمئة ونيفاً، أما الأحاديث فتصل إلى أكثر من المليون في تراث المدرستين الشيعية والسنية، ومن حقنا عندئذٍ أن نضع علامة استفهام كبيرة على ذلك، ليبصرها من على عينيه غشاوة.
أما ما وراء ذلك وهو الأهم: أن هذه العلامة من الاستفهام، ألا تأخذ بأيدينا باتجاه البحث والتنقيب والغربلة؟ وهل ما زالت محاكم التفتيش التي تحركت في القرون الوسطى عند ديانات أخرى ومجتمعات أخرى تجد ضالتها في مجتمعات ومناطق وأديان ومذاهب أخرى؟
كنا بالأمس نقول: هنالك أحاديث موضوعة عمداً، لحرف المسار وتشويه الدين، والتقليل من مقام النبي ﷺ والحط من مراتب الأئمة، والنيل من مقامات الصحابة، وها هي النتائج السلبية ندفعها نحن وسوف يدفعها من يأتي. وكنا بالأمس نقول: الكتاب الفلاني فيه ما لا يقل عن سبعين في المائة من الأحاديث غير صحيحة، وبعضها موضوع، أو على الأقل فيه الكثير مما يحتاج للبحث والغربلة، فكنا نُسلق بألسنة حداد، ولكن عندما يتفوه البعض اليوم بذلك لا نجد من هؤلاء سوى التسليم.
أيها الأحبة: الحقيقة تختلف عن واقعنا كثيراً، فما نعيشه هو واقع مغروس فينا ومفروض علينا، توارثناه ولا نستطيع التفلت منه، لكن الحقيقة تبقى هي الحقيقة، فالحقيقة لا تختصر بعقل رجل واحد ولا عقل جماعة بعينها، والسبب في ذلك أن المعرفة هي الأساس في الوصول إلى الحقيقة، والمعرفة يقصر الناس عن الأخذ بجميع أسبابها لأنها توسعت، لذلك احتاج النابهون من مفكري الأمة إلى التخصص، وفتح هذا الباب على مصراعيه.
أيها الأحبة: إذا ما طرق أسماعنا قولٌ أو توقف أو استنطاق أو تأمُّل على خلاف ما هو في واقعنا المعاش، فعلينا أن نترك له مساحة، وأن نعطي للزمن فاعليته، فلو أننا تعاملنا على هذا المستوى استطعنا أن نغيّر الكثير مما هو بين أيدينا مما يتصف بالواقعية ولا نصيب له من الحقيقة، أما إذا رفضنا ذلك فعلينا أن ندخل دهاليز مظلمة قد لا تنتهي بنا إلا إلى ما لا نرغب أن نصل إليه، ألا وهي لعنة التاريخ والأجيال.
إن مدرسة الحديث فيها الكثير من الغث والقليل من السمين. وقد كنا في السابق نقول: فيها الغث والسمين، أما اليوم فنقول: فيها الكثير الكثير من الغث، والقليل القليل من السمين.
ومن الدروس التي ينبغي أن نأخذ بها في مدرسة الإمام الرضا أنه كان يأخذ بيد أصحابه ويضعها على مكامن القوة والضعف في النص الديني، فكفانا جلداً بمسألة ولاية العهد، فلن يعود الإمام الرضا لتولي منصب ولاية العهد مرة أخرى، فهذه مسألة تاريخية حصلت وانتهت، لكن النص الواصل إلينا عن طريق الإمام الرضا وآبائه وأبنائه المعصومين هو ما يعنينا، والنص الوارد عن جدهم رسول الله ﷺ هو الذي يعنينا، فعلينا أن نتحرك بهذا الاتجاه.
من هنا أناشدكم أيها الأحبة، يا من تحملون أرواحاً طيبة، وعقولاً صافية ورغبة في التزود بالعلم والمعرفة أن تتركوا مساحة لكل أولئك الذين يرغبون في التجديد، وعلينا أن ننزه أسماعنا عما يُتهمون به، وأن نعف ألسنتنا عن النيل من أحد منهم.
من هنا للشرق يا أهل الصفاء نرفع الأصوات في حال الدعاء
حيث فرعٌ ثامنٌ من أحمدٍ يملأ الدنيا ضياء وبهاء
ولنا في ما بدا من قبةٍ نظرةٌ أخرى وحبٌّ ووفاء
جنةُ الأرض حوت مرقده وعلى الأعتاب ما يحكي السماء
تربةٌ مما جرى من لطفها لذوي الحاجات فيضٌ وعطاء
فإذا جئت له في جذبةٍ من صفاء النفس في حال البكاء
فاستلم بالكف باباً وارتمِ ساجداً لله شكراً وثناء
وارفع الصوتَ وصلّ قانتاً فالرضا الضامن في يوم الجزاء
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.