لا أريد أن أكون طبيبا أو مهندسا
قبل أسابيع قليلة بدأت الجامعات - ومازالت - استقبال طلبات الالتحاق بها من خريجي وخريجات المرحلة الثانوية للدراسة فيها في مختلف الحقول والتخصصات. يفترض كل حسب رغباته وميوله وقابلياته وتوجهاته وإمكانياته وقدراته العلمية يختار تخصص دراسته.
هذا الأمر حفزني على كتابة مقال على صلة ومماسة بواقع تجربة شخصية حدثت لي كأب قبل تسع سنوات تقريبا، لعل بطرحها تكون الفائدة.
ابني صارحني في بداية مشوره الجامعي، في بلد الاغتراب، إذ كان آنذاك ملتحقا في حقل الهندسة في برنامج الابتعاث الخارجي، حيث قال: لا أريد أن أكون مهندسا بل أريد أن أكون محاسبا هل تريدني مهندساً فاشلاً أم إدارياً ناجحاً؟ فكان موقفي في البدء متعنتا إزاء تغيير تخصصه، ولم أكن متفهما، بل أصررت عليه بالبقاء على تخصصه في الهندسة.
وبعد فترة وجيزة تفهمت الموضوع وأبلغته بموافقتي في تغيير تخصصه وشجعته على المضي قدما في التخصص الذي يرغب في الاختصاص فيه.
قد يسألني سائل: ما السر وراء تغيير موقفك سريعا، من تعنت وتصلب إلى تفهم وتقبل رغبة ابنك وتشجيعه على المضي قدما فيما اختاره لنفسه؟
السر وراء ذلك هو سؤال في قمة العقلانية وجهته لي زوجتي العزيزة عندما رأتني متعنتا ومتصلبا في موقفي وهو: هل تحب نفسك أم تحب ابنك من خلال ما تصنع؟
هذا السؤال جعلني أنقب بعيدا في الذهن باحثا عن الدافع وراء سلوكي المتصلب اتجاه ابني، وأتساءل في نفسي: هل منشؤه حب تضخيم الذات أم حب ابني؟ هل إصراري على بقائه في الهندسة ليشار لي في المجتمع، هذا أبو المهندس؟ هل منشؤه المحافظة على الوضع الاجتماعي «برستيج ليس إلا»؟
حب الذات ليس بالأمر المذموم والمستقبح، بل هو أمر مطلوب بصريح القرآن الكريم «قو أنفسكم وأهليكم نارا»، فالوقاية منشؤها حب الذات. وهو أمر متأصل في الإنسان ويحتاج إلى إشباع. وأبرز مظاهر إشباعه هو حب الولد والحرص على تعهده ورعايته والعناية به. فحب الإنسان لولده منشؤه شعور فطري بأنه الامتداد الطبيعي له بعد الممات الذي يحفظ ذكره. وبصياغة أخرى: إن حب الولد هو جزء من حب الذات.
يقول الشاعر حطان بن المعلا الطائي: «و إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض». أما الأمر المذموم في حب الذات هو ذلك الحب الذي يشكل تشوها نفسيا، بحيث يرى الإنسان نفسه هو محور الأمور، أو بمعنى أخر هو المبالغة في حب الذات وتضخيم اعتبارها. فمتى ما كان الأب يعيش عقدة تضخم اعتبار الذات يلجأ إلى جعل ابنه رهين الاستجابة لرغباته المريضة وإن توشحت بوشاح حبه ظاهريا. ولذا من الضروري البحث الجاد عن الدافع وراء سلوكنا اتجاه أبنائنا.
وأنا من خلال تجربتي الشخصية في هذا المقام توصلت إلى أن الخط الفاصل بين حب الذات كأمر فطري طبيعي والمبالغة في حب الذات كتشوه نفسي يكمن في احترامي وتقبلي لاختيار ابني، أما لو جاوزت اختياره ورغباته وفرضت ما أريد، فلا يعني إلا مبالغتي في حب ذاتي والتقليل من اعتبار ابني واستقلاليته.
ومن يمارس دور الإكراه والإجبار في هذا الموضوع فهو قد تجاوز الحد الطبيعي لحب الذات وسار في مسار الحب المشوه للذات وإن لم يشعر بذلك.
ولو مضينا لنفتش في صفحات حياتنا اليومية سنجد سلوكيات البعض اتجاه أبنائهم منطلقة من المبالغة في حب الذات والمحافظة على اعتباريتها وليس من حب الابن كحب طبيعي للذات. وللتدليل على ذلك سأنقل لكم أمرا واقعيا رأيته بعيني: ابن يدخن «معسل»، ولكن سرا، فرأه أبوه مصادفة، فأخذ يلومه ويوبخه وقال له: ماذا سيقول الناس عني لو رأوك تدخن؟
دعونا نتأمل قليلا في تساؤل الأب، سنجد أن حرصه ليس متوجها لسلامة وصحة ابنه بل كل همه وشغله الشاغل الحفاظ على سمعته ومكانته ومقامه. أليس في هذا الموقف شخوص بارز لتضخيم الذات.
إني على يقين تام بأن ثمة نداءات واستغاثات تصدر من نفوس كثير من الطلبة الخريجين والطالبات الخريجات في هذه الأيام:
- يا أبي لا أريد أن أكون طبيبا.
- يا أبي لا أريد أن أكون مهندسا.
هذه النداءات والصيحات بعضها مكتومة في الصدر لم يبثها أصحابها وبعضها قد أباح بها أصحابها ولكن لا حياة لمن تنادي، فلم تسمع. فحال من باح حال من كتم بسبب تعنت بعض الأباء.
آيها الأب:
يا من تسمع هذه الصيحات والنداءات من ابنك لا تكن مستعدا للرد عليه بوابل من الأسئلة:
- لماذا لا تدرس طبا أو هندسة؟
- لماذا تختار تخصصا غير الطب والهندسة وأنت درجاتك تؤهلك للالتحاق بالطب أو الهندسة؟
- هل الذين التحقوا بكلية الطب أو الهندسة أفضل منك؟
آيها الأب:
لا تنظر إلى الأمور من منطلق حب ذاتك الفردية، ودع ابنك يختار ما يناسبه، ويرى مستقبله الوظيفي بنفسه. فليس الحصول على الدرجات العالية هو المحدد فقط لاختيار التخصص. فالاختيار الصحيح رهين بأمور عدة ذات أهمية قصوى تتمثل في الميول والرغبة والتوجه والقابلية والقدرة.
وأختم مقالي بتوجيه عظيم الشكر وجزيل التقدير لزوجتي العزيزة التي أنقدت مستقبل ابنها من براثن تعنتي، إذ بتساؤلها فتحت كوة في جدار تفكيري المتصلب.