مجاهدة النفس وتهذيبها
ليس هناك من جهد وسعي أبلغ وأعظم من جهاد النفس وردعها عن مسايرة أهوائها ونزواتها، لما يترتب على ذلك الانسياق الأعمى لتسويلاتها من خطر الوقوع في حفر ومخادع الشيطان وارتكاب المعايب والقبائح، وبكباح جماحها يعلو بنفسه إلى أفق الورع والاستقامة وحفظ النفس عن دنس المعاصي ومواطن الزلل والأخطاء، فالنفس إن اعتادت على السلوك الخاطيء وتربت عليه، تحول ذلك السلوك إلى عادة تترسخ فيها ويصعب بعد ذلك اجتثاثها، ويرتاضها ويهديء من مسيرها المتزن التخلق بالتعامل الأخلاقي الرفيع والقائم على احترام النفس والغير.
ومن الحقائق المهمة هي أن كل سلوك ومنحى تفكيري يبرزه المرء، هناك دافع ومحرك نفسي له سواء كان إيجابيا أو سلبيا، فالصدق مثلا خلق رفيع يتميز به الواثق من نفسه، ويسعى لإقامة علاقات متينة لا يخدشها الخداع أو التلون والمشاعر المنافقة، وفي المقابل فإن الحسد مثلا يصدر ممن يمتلك مشاعر سلبية تجاه الغير، ولا يرى لنفسه وجودا مريحا ومتفردا مع تنعم الآخر وهنائه!
وهذا ما يدعونا لطرح موضوع التخلق والتغيير الإيجابي، فلا يوجد أي رسوخ والتصاق لمفردة سلوكية منبوذة في نفوسنا، فيقال أننا مكبلون ولا نستطيع التخلص منها وقد نبتت جذزرها في وجداننا، بل هناك قدرة لمن يسلك طريق تهذيب نفسه ومجاهدة أهوائها واتجاهاتها المائلة، من خلال محاسبة نفسه والبحث عن أخطائه والسلوكيات المعيبة التي تصدر منه، يمكنه أن يقف عليها وعلى الدوافع والمسببات التي تحركه تجاهها، وبلا شك فإن معرفة النتائج والعواقب الوخيمة المترتبة عليها هو بداية المسير، فعندما يضعها نصب عيني بصيرته فإن ضميره يحذره من الوقوع في حبائلها.
كما أن الانجذاب والأريحية والاندفاع نحو فعل الخيرات والأعمال الصالحة والتعامل الحسن مع الآخرين، ينشأ من رؤية هذه الأفعال والاطلاع عليها في سيرة الصالحين والأولياء والاقتداء بهم، مما يقربه إلى الله تعالى ويدعوه إلى طلب رضوانه، فتتحرك نفسه بقوة لإتيانها.
وهذه الهمة العالية في التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل ليست بالعملية السهلة، التي لا تواجهه في خضمها ألوان الابتلاء والعقبات من أهواء ووسوسة الشيطان، ولكن ما يدفعه نحو طريق الحق والهدى هو معرفته اليقينية بصوابية مسيرة تهذيب النفس، فيتحمل في سبيل ذلك المشاق.
ومجاهدة النفس عملية تمرينية مستمرة كلما واجهت المرء عقبة هوى أو نزوة تنزع لها نفسه، وما عليه سوى تصور واستحضار نتائج أي خطوة أو تصرف يقدم عليه، فذاك كفيل بتقديم الدافع القوي له للامتناع والتوقف، فالتهور وسرعة الاستجابة لتسويلات النفس هو نتيجة لغلبة الشهوة واستحكامها على العقل، فيغيب عنه سوء المصير الذي ينتظره.