حول التفسخ السياسي
رغم سمعته السيئة بين العرب، فإن صامويل هنتينغتون يعد واحداً من أهم علماء السياسة الأميركان، وله مساهمات مؤثرة في بحوث التنمية، وأشير مثلاً إلى دراسته المهمة «التنمية السياسية والتفسخ السياسي» التي تعد الآن نظرية قائمة بذاتها. نشرت هذه المقالة في 1965، وأثارت اهتماماً كبيراً يومئذ، ثم تجدد الاهتمام بها في السنوات الأخيرة، بعدما ناقشها بالتفصيل المفكر المعروف فرنسيس فوكوياما، في كتابه المسمى «النظام السياسي والتفسخ السياسي». وفوكوياما تلميذ سابق لهنتينغتون.
تنطلق نظرية هنتينغتون من فرضية محورية، فحواها أن التحديث والتنمية، سواء رُكّزا على المجال السياسي أو الاقتصادي، يولدان بالضرورة تسارعاً في الحراك الاجتماعي، وزيادة مفرطة في اهتمام الأجيال الجديدة بالمجال العام، وما يدور فيه من أسئلة ومشكلات. بعبارة أخرى، فإن قضايا الدين والسياسة والاقتصاد، التي كانت حكراً على نخبة المجتمع، تتحول الآن إلى موضوع اهتمام لعامة الناس، سيما الشباب المتعلم الذي يشكل أكثرية نشطة في المجتمعات النامية.
يؤدي اهتمام الجيل الجديد بالشأن العام إلى تصاعد تطلعاته، بالتوازي مع اعتقاد ميتافيزيقي فحواه أن الحكومة تستطيع فعل كل شيء إذا أرادت، وأن كل مطالبه قابلة للتنفيذ لو استمعوا إليه. لكن هذا تصور غير واقعي. حين تجمع ما يريده الناس وما يتوقعونه، فسوف ترى مجموعة مستحيلة الإنجاز في أي ظرف. لكن كل فرد ينظر من زاويته الخاصة، فيرى تطلعاته سهلة التنفيذ.
انفجار التطلعات والتوقعات المتفائلة، يولد ضغطاً منهكاً على الإدارة الحكومية، التي - تبعاً لقانون الندرة - لا تستطيع سوى تلبية القليل. وهذا بدوره يولد احباطاً على هذا المستوى، ويوسع الهوة بين الفرد وبين الدولة، ويفتح الباب أمام انكسارات اجتماعية.
إن تأخر الدولة في استيعاب الحراك الاجتماعي الجديد، سيقود إلى ما سماه هنتينغتون «التفسخ السياسي»، أي تراخي الشعور بالمسؤولية، وطغيان الأحاسيس السلبية والإحباط وعدم الفعالية، على المجتمع الوطني ككل.
يعتقد هنتينغتون أن جميع المجتمعات النامية ستمر بهذا السيناريو في وقت ما. ولذا فهو يدعو إلى علاج من ثلاثة أجزاء:
أولها: الاهتمام بتعزيز قوة الدولة وكفاءتها. انفجار التطلعات في ظل حكومات ضعيفة، يولد بالضرورة فراغاً سياسياً أو أمنياً، ربما يطيح بالسلم الاجتماعي. مفهوم الدولة القوية الذي نتحدث عنه هنا، يعني بالتحديد الفعالية والكفاءة والالتزام بفرض القانون، بمسؤولية واتزان. لأن الدولة القوية تدير عملها باعتدال، وهي في الوقت نفسه فعالة وسريعة الاستجابة للجمهور.
الجزء الثاني هو تعزيز النظام المؤسسي، وتطوير القانون والإدارات التي تتعامل مباشرة مع الجمهور، أو تلك التي يؤثر عملها على حياة الجمهور، على نحو يجعلها أكثر مرونة واستجابة للمطالب والحاجات المتغيرة.
أما الجزء الثالث فهو تشجيع الأجيال الجديدة على «عقلنة» مطالبها وتطلعاتها، من خلال دمج المطالب الفردية المتعددة في مطلب عام، والنضال لتحقيقها من خلال مجهوداتهم التعاونية، أو من خلال المنظومات القانونية القائمة. ومفتاح هذا الجزء هو منظمات المجتمع المدني التي تستوعب المطالب الفردية وتدمجها، كما تساعد على اكتشاف المسارات التي تمكّن من تحقيقها في إطار القانون العام والموارد المتاحة، أو تذهب بها إلى المرحلة التالية، أي اتخاذها مبرراً لاستحداث موارد جديدة، أو مسارات قانونية جديدة، تستوعب الحاجات التي لم تلحظ من قبل.