آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 6:47 م

في معنى هبة الأقصى

يوسف مكي * صحيفة الوطن

هبة الأقصى الجديدة هي استمرار للكفاح الفلسطيني، وهي تذكير للعدو بأن تعويله على محو الذاكرة الفلسطينية هو مراهنة على الوهم

لم يحدث في التاريخ الإنساني المعاصر أن ظلم شعب كما ظلم الشعب الفلسطيني. فهذا الشعب صودرت هويته وانتزع من أرضه، واستبدلت فلسطين التاريخية بشعب آخر قدم من مختلف أصقاع الأرض، مستندا في حقه في مغالبة السكان الأصليين على أسطورة وفرادة تاريخية وموقف عنصري. وما كان لكل ذلك أن يأخذ مكانه لولا التواطؤ الدولي والضعف العربي، وهشاشة مقاومة السكان الأصليين للاحتلال.

لقد مرت المسألة الفلسطينية بمراحل أربع، تآكلت معها حقوق الفلسطينيين، ولم يتبق منها سوى القليل القليل.. وفي كل تلك المراحل كان التواطؤ الدولي ماثلا.

كان وعد بلفور عام 1917 بتشكيل وطن قومي للصهاينة على أرض فلسطين قد جاء من خارج المكان، ومن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وحينها لم يكن بالوطن العربي بأسره بلد يملك الإمساك بمقاديره. وتواطأت فرنسا وروسيا وأميركا مع الوعد المشؤوم. وكان قرار تسهيل هجرة اليهود من أوطانهم في القارة الأوروبية وأميركا دوليا بامتياز.

المرحلة الثانية، مرحلة النكبة، وشهدت إعلان تأسيس دولة الكيان الغاصب، وطرد سبعمئة ألف فلسطيني من ديارهم. ولم يكن لذلك أن يتحقق لولا نتائج الحرب الكونية الثانية والقرار الدولي بإيجاد إسفين في خاصرة الأمة يفصل بين مشرقها ومغربها. وتأكد لاحقا أن هذا الإسفين هو كيان استيطاني أوروبي عنصري بمعلم يهودي. ولم يكن لهذا المشروع أن يتحقق لولا وضع بصمة هيئة الأمم المتحدة، وقرار التقسيم رقم 181 الصادر في 17 نوفمبر عام 1947م.

المرحلة الثالثة، وأخذت مكانها بعد نكسة الخامس من يونيو 1967، حيث شهدت النزوح الثاني للفلسطينيين من أرضهم إلى الشتات، بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة ومدينة القدس الشرقية، إضافة إلى احتلال أراض من مصر «شبه جزيرة سيناء» وأخرى سورية «مرتفعات الجولان». ومرة أخرى كان التدخل الدولي فاضحا في صياغة مشاريع تسوية ما بعد النكسة، وفي تكريس الأمر الواقع، الذي هو بالضرورة في صالح الكيان الصهيوني.

المرحلة الرابعة، وبدأت بعد معركة العبور عام 1973م مباشرة، والتي نجح فيها السلاح وفشلت السياسة. وقد تكشف لاحقا أن تلك الحرب لم تكن سوى حرب تحريك وتأهيل للمنطقة لتحقيق انتقال استراتيجي سياسي، وتغيير خريطة التحالفات الدولية، ووضع المقدمات لمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي عبرت عنها كتابات شيمون بيريز. وكان التدخل الأميركي جليا منذ لحظة توقف المدافع حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الكيان الصهيوني ومصر، ووادي عربة بين الصهاينة والأردن، وأخيرا توقيع اتفاقية أوسلو بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

تواصلت هذه المرحلة بمقتضاها الجديد الذي يدفع بالضحية إلى التخلي نهائيا عن مطالبه التاريخية في أرضه وأرض أجداده، وأن يسلم لسارقي أرضه بما اكتسبوه بقوة السطو وجبروت القوة. وكان توقيع اتفاقية أوسلو بين الحكومة الإسرائيلية بزعامة إسحق رابين ومنظمة التحرير الفلسطينية هو مرحلة التنازل الأخطر في تاريخ الصراع العربي - الصهيوني. وخطورته أنه تم مباشرة بين الضحية والجلاد.

لم يعترف اتفاق أوسلو للفلسطينيين بإقامة دولة على التراب الفلسطيني. لقد حصل الفلسطينيون على حكم ذاتي منقوص دون سيطرة فعلية على الأرض. وغيب الاتفاق حق العودة، ولم يأت على ذكر لاجئي عام 1948 إطلاقا. وحين يتعلق الأمر بمستقبل مدينة القدس فإن الاتفاقية لم تشر أبدا لحق العرب بالسيادة عليها، أو على أي جزء منها. بل على العكس فإن المسؤولين الإسرائيليين ما انفكوا يصرحون بمناسبة وبغير مناسبة بأن القدس ستبقى موحدة، وستبقى العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل. أما المستوطنات الصهيونية بأراضي الضفة والقطاع فقد تجاهلها الاتفاق جملة وتفصيلا.

أعاد توقيع اتفاق غزة أريحا قضية النظام العربي والنظام الذي صنف بالشرق أوسطي إلى الواجهة. وكان هذا الطرح بعد أن بدأ على نحو جاد، وإن كان جزئيا إثر توقيع معاهدة اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979. فطبقا لهذه المعاهدة أصبحت إسرائيل طرفا في علاقة أكيدة بقطر عربي لعب دورا قائدا في مسيرة الصراع مع الصهاينة.

تاريخيا عول الصهاينة في نجاح مشروعهم الاستيطاني التوسعي على ضعف الذاكرة الفلسطينية، وأن جيلا فلسطينيا جديدا سوف يولد لن تكون له علاقة بالصراع وأبجدياته. لكن التاريخ الفلسطيني أثبت بما لا يقبل الشك أن الذاكرة الفلسطينية حية ومبدعة وعصية على التذرر.

وكان التاريخ الفلسطيني بمجمله هو عبارة عن حالات نهوض وانتفاضات متواصلة، من أجيال مختلفة في وجه المحتل. نذكر بينها على سبيل الأمثلة لا الحصر النهوض الوطني بالأراضي المحتلة الذي أفرز قيادات وطنية فلسطينية تعرضت لاحقا من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية للتصفية والاغتيال، من بينهم بسام الشكعة وفهد القواسمة ومحمد الملحم، وكثير غيرهم.

في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم تحدى أطفال الحجارة الوهم الصهيوني بانتفاء الذاكرة الفلسطينية، وسجلوا ملحمة هي من أنصع صفحات الكفاح الفلسطيني، استشهد فيها أكثر من ألف طفل، عدا الآلاف ممن تشوهت أجسادهم الغضة، كاشفة فاشية الاحتلال، وكيف أن فلسطين بقيت حية في وجدان الأطفال من الفلسطينيين.

وفي مطالع هذا القرن اندلعت انتفاضة الأقصى لتؤكد مجددا قوة حضور قضية الاحتلال في الوجدان الفلسطيني. رغم الكلف الباهظة التي قدمها الفلسطينيون في تلك الانتفاضة.

هبة الأقصى الجديدة هي استمرار للكفاح الفلسطيني، وهي تذكير للعدو بأن تعويله على محو الذاكرة الفلسطينية هو مراهنة على الوهم. ولسوف يستمر الكفاح الفلسطيني إلى أن تتحرر فلسطين، ويعود الحق لأهله.