من أجْل فمٍ ينقّط عسلا!
وقد كان فوتُ الموتِ سهلاً فردَّه/ إليه الحِفاظُ المرُّ والخُلُقُ الوعْرُ! ووعورة الخُلُقِ في هذا السياق إيجابية، إذْ قال أبو تمام ذلك في رثاء محمد بن حميد الطائي. نعم، هي إيجابية حين تأتي في موضعها المناسب. أي حين «نضعُ النَّدى حيث النَّدى، والسيفَ حيث السيفِ، والأشواقَ حيث الياسمين»! فماذا عن «وعورة الخُلُق» في جانبها السلبي؟
سؤال يأخذنا من جديد إلى «مطبَّات» الشخصية، حيث الوعورة، في هذه الحال، نقيض اللباقة والتهذيب. وتظهر جلية في الكلمات. فأنت لا تعرف حقيقة شخص ما حتى يتكلم، وحين يتكلم إما أن «ينقّط فمه عسلا»، أو يتدفق بالزلات الناتجة عن نقص في مهارات التواصل.
قديما كان يطلق على بعض الحوارات «سفسطة»، وكان المعنى إيجابيا. ومن معاني كلمة sophisticated المحنَّك والمطّلع ورفيع الثقافة. لكن بعضهم، وبطرقه الملتوية في الحوار، قد حوَّلها إلى صفة سلبية، فصارت تعني تمويه الحقائق، وتضليل المحاور. وقد زاد سفسطائيو زماننا هذا الطين بلة.
وإذا كان سقراط نفسه سفسطائيا، أمكن إدراك الفرق بين سفسطائي وآخر. أي بين شخص تتحدث معه فتخرج من حديثك خالي الوفاض، وآخر يشبه الحديث معه نزهة في غابة جميلة ساحرة، لا لأنكما متفقان، أو لأن أفكاركما متقاربة، بل لأن الاختلاف مع هذا النموذج حضاري ومنتج.
لكن ما علاقة الكلام على السفسطة بمطبات الشخصية؟ سؤال في محله، فالسفسطائي بالمعنى الإيجابي للكلمة لا يقع في «مطب» الفظاظة والغلظة والجلافة لما يمتلكه من مهارات في التواصل تراعي مشاعر الآخرين. أي أنه كما يقول اسحاق نيوتن «شخص يضع النقاط على الحروف دون أن يصنع له أعداء». ونيوتن بهذه المقولة يتجاوز دوره كمنظّر في قوانين الحركة والجاذبية الأرضية، إلى متأمل في أسرار الجاذبية الشخصية. وإذا كان الطبع يغلب التطبع، كما يقال، فإن بعضهم لا يستطيع أن يكون لبقا لطيفا حتى لو بذل في سبيل ذلك جهدا جهيدا.
غالبا ما يضع بعضهم بينه وبين الآخرين مسافة؛ مسافة تشبه ما يسميه المشتغلون بالإحصاء «هامش الخطأ» Margin of Error حيث الهدف من ذلك الهامش في مجال الإحصاء الاطمئنان إلى صحة نتائج الاستقصاء. وانطلاقا من هذا الهدف فإن تحقيق «الطمأنينة» هو القاسم المشترك بين ذلك الهامش وتلك المسافة. ولأنه لا توجد مثل تلك المسافة في التعامل مع الأصدقاء، فقد حذَّر الطبيب والكاتب الأمريكي أوليفر هولمز قائلا: «لا تحسب أن الصداقة تبيح لك مخاطبة الأصدقاء بصفاقة»!