آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 8:09 ص

المثقف والمفكر بين الممنوع والممتنع

الشيخ زكي الميلاد * صحيفة الرياض

وجد الناقد اللبناني علي حرب أن حديثه النقدي الصارم عن المثقف لا تكتمل فصوله، من دون الإشارة إلى المفكر الذي يمثل عنده صورة مغايرة لصورة المثقف، ونموذجا بديلا ومفضلا عنه، مكونا بذلك نظرية يكاد ينفرد بها في المفارقة بين المثقف والمفكر.

في هذه النظرية ارتكز حرب على فكرتين تفسيريتين هما: الممنوع والممتنع، الممنوع يكون متصلا بالخارج، والممتنع يكون متصلا بالداخل، رابطا المثقف حصرا وتعيينا بفكرة الممنوع، ورابطا المفكر حصرا وتعيينا بفكرة الممتنع.

وحسب شرحه لهذه النظرية ضبطا وتحديدا، يرى حرب أن المثقف بوصفه يدافع عن الحقوق، ويناضل من أجل الحريات، فإنه يمارس نقده على جبهة الممنوع، أي ما يمنع من خارج، سواء بسبب المحرمات والضغوطات الاجتماعية، أو من قبل السلطات المختلفة السياسية أو الدينية وحتى الأكاديمية.

أما المفكر بخلاف المثقف أو عكسه، فهو يركز نقده على جبهة الممتنع، ولهذا فهو يهتم في نظر حرب بتفكيك العوائق الذاتية للفكر، كما تتمثل في عادات الذهن، وقوالب الفهم، وأنظمة المعرفة، وآليات الخطاب، على نحو يتيح للمفكر أن يبتكر ويجدد سواء في حقول التفكير وأصعدة الفهم، أو في شكل التفكير ونمط التعاطي مع المفاهيم، فهو في النهاية صانع أفكار، أو مبتكر مفاهيم، أو خالق بيئات مفهومية.

ويقترب حرب من جهة المشروعية، ويرى أن مشروعية المثقف تتحدد في أن ينطق بالحقيقة ويدافع عن الحقوق والمصالح والحريات، أما مشروعية المفكر فهي تتحدد في القيام بنقد المثقف، خاصة بعد أن فقد هذا الأخير أسلحته، وأصبح يشكل وجهاً من وجوه المشكلة، ومظهراً من مظاهر الأزمة في حياة المجتمع، وعلى مستوى دورة الثقافة والفكر.

وما يدعونا لاستعمال تسمية النظرية في هذا المورد، هو تمسك حرب بهذه الفكرة، وقولبتها بطريقة نسقية، وتقصده تكرار الحديث عنها، ولفت الانتباه لها، فقد تعامل معها كما لو أنها من أفكاره المهمة التي يسعى لتسليط الضوء عليها، أو أنها من أفكاره المبتكرة التي يريد إشاعتها والتعريف بها انتسابا إليه، أو أنها من أفكاره الدالة على طريقته المثمرة في التفكير وهو الوصف المحبب له.

وتأكيدا لهذه الملاحظة في جواز استعمال تسمية النظرية، أن حرب ظل يفرد فقرة مستقلة بعنوان «المثقف والمفكر» في جميع المرات التي تحدث فيها عن هذه القضية قبضا وبسطا، فقد أشار إليها في كتابه «الممنوع والممتنع.. نقد الذات المفكرة» الصادر سنة 1995م، وجاء الحديث عنها في المقدمة الطويلة التي تجاوزت حسب قول حرب مألوف المقدمات، وأراد من هذه المقدمة أن يشرح ما سماه استراتيجيته في القراءة، وطريقته في التفكير أو في التعامل مع الأفكار، متكلماً فيها عن فهمه ومفهومه لبعض العناوين الكبرى في خطابه النقدي، مثل: النص والنقد والحقيقة والفلسفة والحداثة، محاولا أن يوضح من خلال ذلك المفاهيم التي استثمرها، أو التي أعاد تعريفها وصوغها، أو التي استخدمها لأول مرة، ومن هذه المفاهيم وفي مقدمتها: الممنوع والممتنع، المثقف والمفكر وغيرهما.

كما أشار حرب إلى هذه القضية في كتابه المثير للجدل «أوهام النخبة أو نقد المثقف» الصادر سنة 1996م، أشار لها هذه المرة متوسعاً، متناولاً نظريته بسطاً وليس قبضاً بخلاف المرات التي قبلها وبعدها، بطريقة كما لو أنها تمثل النص الرئيس للنظرية، وجدد الإشار إليها كذلك في كتابه «الماهية والعلاقة.. نحو منطق تحويلي» الصادر سنة 1998م.

هذه بعض الأعمال التي وقفت عليها، ولعل حرب أشار لهذه الفكرة في أماكن أخرى، وسيظل يشير إليها في أعمال لاحقة على ما أظن، لكونها تعد من أمهات أفكاره، ما دام يرى أن مشروعية المفكر تتحدد في القيام بنقد المثقف.

ليس هذا تمام القول، بل هو خلاصته حول نظرية الناقد علي حرب في المفارقة بين المثقف والمفكر، مع ملاحظة أن حرب لا يرى نفسه صاحب نظرية ولا صاحب أطروحة ولا حتى صاحب مشروع فكري أو نقدي.

فهذا الوصف على تنوع أنساقه ليس فقط لا يقبل به حرب، بل ويعترض عليه بشدة، وهو الذي طالما نقد أصحاب النظريات وأصحاب الأطروحات وأصحاب المشاريع الفكرية، واعتبر ذاته ناقدا يعمل على تفكيك النظريات، وفضح ألاعيبها، وكشف زيفها، وتسفيه أحلامها، وتعرية خداعها، وتقويض إدعاءاتها، وهي الكلمات والعبارات التي تتكرر في قاموسه النقدي وتتواتر، ويكفيه كما يقول عن نفسه أن يفكر بطريقة مثمرة، بطرح سؤال أو إثارة سجال أو فهم مأزق أو فتح منفذ، لا أن يكون صاحب نظرية أو صاحب أطروحة.

هذه هي خلاصة القول حول نظرية علي حرب في المفارقة بين المثقف والمفكر، وبقي الحديث عن جانب النقاش.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
S
[ ALG - LAGH ]: 20 / 7 / 2017م - 4:37 م
- المفكر لا ينطلق من فراغ بل يعيش في واقع بكل سلبياته وإيجابياته ويحس به ويكون بذلك واقعي فينعكس ذلك على فكره وإدراكه ،وخاصة إذا وهبه الله نور البصيرة وعمق التفكير وإخلاص النية وبعد الرؤيا ، أما المثقف فقد حشى عقله بمعلومات شتى لكن كان بعيدا عن الواقع ولم يحتك به ، لذلك سيكون عطاءه غير مكتمل أو ناقص ، المثقف درس عن علوم كثيرة لكن لم يحياها بوجدانه ولم تشكل فكره وتصوره ، مثلا درس عن الطبقية وعن الإقطاعية وعن الفوارق الإجتماعية بطريقة مجردة ، لكن المفكر عاشها وأحس بها في كيانه ، بل قد تكون تمة تجارب أثرت فيه وتركت بصماتها على نفسيته فهو ملم بها أكثر من المثقف الذي درس عنها ، وقد يكون عانى منها ، المثقف درس عل علم التاريخ وكل حوادث التي مرت فالتاريخ بالنسبة له حوادث مضت لكن المفكر يعتبر التاريخ هو هذا الحاضر الذي يحياه ويحس به ليس وقائع مرت بل أحداث يلمسها في واقعه وتشكل أفكاره يراها في كل ما يحيط به وهكذا
من كتاب : العودة للذات
2
S
[ ALG - LAGH ]: 20 / 7 / 2017م - 4:44 م
مقالة ممتازة للمفكر الاستاذ "زكي الميلاد"

- المثقف يرفع صوته او يستخدم قلمه للدفاع عن الحريات المنتهكۃ واخصها حريۃ التفكير والتعبير. اما المفكر فانه يقتحم المناطق المستبعدۃ من نطاق التفكير. لكي يجعل الممتنع ممكنا.
كتاب "الممنوع والممتنع".

- المثقف محدود النطاق عكس المفكر الذي لا يكتفي بالقلم و الصوت بل يستخدم طريقة أخرى من التفكير لكي يدافع عن الحريات هنا نجد منطق العقل .
كاتب وباحث سعودي «القطيف»