مناقشة لما طرحه الشيخين الدهنين والسندي حول مسألة السب في الثقافة القرآنية
السَّبُّ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ
تَمْهِيدٌ
انتشر مقطع فيديو للشيخ علي الدهنين - هدانا الله وإياه - من كلمة له في ذكرى ميلاد الإمام المهدي المنتظر لهذا العام 1438 هـ ، تحدث فيه عن تكريس القرآن الكريم لثقافة السبّ تجاه المنحرفين، وذلك من خلال ممارسته عملياً في بعض آياته، كما في قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾، وقوله تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ﴾. وكان كلامه في سياق تحريضي واضح ضد من وصفهم بالمنحرفين، حيث قال بعدها مخاطباً الجمهور بصوت عالٍ وهو منزعج: ”أين الأمر بالمعروف؟ أين النهي عن المنكر؟ أين الوقفة الصارمة تجاه الانحرافات؟“ أين ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾؟ ".
ورداً على من يستنكر كلامه حول ممارسة السبّ بحجة أنَّ ذلك منافٍ للأخلاق قال الشيخ الدهنين: ”نعم، الأخلاق لها موضع، لها حدود، لها ضوابط...“ [1] . أي، أنَّ الأخلاق لا تستعمل في كل الحالات وعلى كل الأحوال.
ولقد أثار كلامه هذا ردود أفعال واسعة، وقد شايعه على ذلك البعض منهم الشيخ حيدر السندي الذي أكد هو الآخر على تكريس القرآن الكريم لهذه الثقافة «السَبٌّ» [2] ، بل إِنَّهُ توسع كثيراً في بيان المسألة تبريراً لكلام الشيخ الدهنين، رغم أنَّ بعض ما جاء في كلامه لا ينسجم أبداً مع ما طرحه الشيخ الدهنين في المقطع المنشور، وسوف يتضح ذلك جلياً بإذن الله في طيات هذا المقال.
تنبيهات عامة
§ من المهم الاطلاع على ما طرحه الشيخين الدهنين والسندي حول مسألة السبّ في القرآن الكريم قبل قراءة هذا المقال، لأني لم أنقل كل ما طرحوه في هذا الشأن.
§ سوف يكون كلامي مخصصاً بمسألة السبّ في القرآن الكريم وما يتعلق بها، ولذا لن أتطرق لمناقشة المسألة في الأحاديث الواردة عن النبي الأكرم ﷺ وأهل بيته إلا بقدر الضرورة التي تدعم البحث القرآني في بعض الموارد.
§ لن أحاول نفي وجود السبّ في القرآن الكريم مطلقاً على كل الآراء والتوجهات، فهذه المسألة كغيرها من المسائل الدينية التي يوجد حولها خلاف، وإنما كل ما سأفعله هو إبراز وجهة نظر الاتجاه الرافض لتكريس القرآن الكريم لهذه الثقافة، وذلك لأنَّ هذا الاتجاه تم تجاهله أو التقليل من شأنه أو تأويل كلامه بخلاف ظاهره من قبل بعض المخالفين له كالشيخين الدهنين والسندي.
§ لا بد من التأكيد أنَّهُ حتى مع فرض وجود السبّ في القرآن الكريم على بعض الآراء، فإِنَّ هذا شيء واتخاذه منهجاً والدعوة لممارسته كثقافة عامة تجاه المنحرفين شيء آخر، ولذا لا ينبغي الخلط بين الأمرين.
السَبٌّ عند الشيخين الدهنين والسندي
قبل أنَّ نناقش الأدلة التي استدل بها الشيخ الدهنين لتكريس القرآن الكريم لثقافة السبّ والشتم؛ من المهم أنَّ نتعرف على ما هو مراده من مفردة السبّ؟ وذلك لكي لا يقول لنا قائل بأننا قد أخطئنا في فهم كلامه، كما هي العادة المتبعة لدى الشيخ الدهنين وأنصاره بعد كل إثارة وبلبلة يُحدثوها في المجتمع.
والحقيقة أنَّ الشيخ الدهنين لم يتطرق لبيان مراده من السبّ بشكل مباشر، ولكن يُفهم من سياق كلامه أَنَّهُ كان يقصد به الكلام الذي يتنافى مع حدود الأخلاق، وذلك لأَنَّهُ بعد أنَّ دعى لممارسة السبّ تجاه المنحرفين زاعماً أنَّ القرآن الكريم قد استعمله في قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾، وقوله تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيم﴾ٍ، ذكر رداً على من يستنكر ذلك لمنافاته مع الأخلاق والأدب أنَّ الأخلاق لها موضعها وحدودها وضوابطها[3] . وهذا الكلام يُوحي - كما هو واضح - أَنَّهُ يرى أنَّ السبّ يقع في قبال الأخلاق.
غير أنَّ الشيخ حيدر السندي - وهو ممن شايعه على هذا القول - أراد أنَّ يُوجه كلام الشيخ الدهنين توجيهاً آخر، وذلك بالقول بأَنَّهُ ليس المقصود بالسبّ الذي أراده الشيخ الدهنين خصوص ما يتنافى مع حدود الأخلاق، وإنما هو كل ما يُفيد النقص والازدراء، ولقد حاول الشيخ السندي الاستفادة من اللغة لإثبات ذلك من خلال إيراد ما ذكره الطريحي في مجمع البحرين لبيان المراد من مفردة «الشتم»، حيث نقل عنه قوله: ”الشتم: السبّ، بأنَّ تصف الشيء بما هو ازدراء ونقص“ [4] . وذلك ليقول بعدها بأنَّ أي وصف في القرآن الكريم يفيد النقص فهو يدخل في إطار السبّ والشتم، وهذا مما يدلّ على وجود السبّ في القرآن الكريم، بل ويدلّ على تكريسه لهذه الثقافة أيضاً، ولكن هذا التوجيه جاء بخلاف الظاهر من كلام الشيخ الدهنين، حيث يُفهم من سياقه أَنَّهُ أراد بالسبّ ما يُقابل الأخلاق بالضرورة كما بينا آنفاً. ورغم معرفتنا لهذا الأمر إلا أننا سوف نبحث المراد بالسبّ والشتم في كلمات اللغويين لما لذلك من أهمية كبرى[5] .
السبّ والشتم في كلمات اللغويين «جولة في قواميس اللغة»
من الخطأ اختزال جميع آراء اللغويين بما ذكره الطريحي في مجمع البحرين كما حاول الشيخ السندي، فهناك آراء أخرى ذكرها اللغويون بخصوص هاتين المفردتين «السبّ والشتم»، ولذا سنقوم بإيراد ما يتعلق بهما في القواميس اللغوية، وسيكون ذلك بحسبّ الأقدمية الزمانية في التالي[6] :
أولاً: كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى «170 هـ »:
§ السبّ: ”والسِّبُّ: الكثير السِّباب... والسَّبّابَةٌ: الإصبَع بعد الإِبهام. والسُّبَّةُ: العارُ“ [7] .
§ الشتم: ”شتم: شَتَمَ فلانٌ فلاناً شتماً. وأسدٌ شَتِيمٌ وحمارٌ شَتِيمٌ، أي: كريهُ الوجه“ [8] .
ثانياً: كتاب «تهذيب اللغة» للأزهري المتوفى «370 هـ »:
§ السبّ: "سب: الحرّاني عن ابن السكّيت قال: السَّبُ: مصدَرُ سَبَبْتُه سَبّاً. والسِّبُ: الخِمارُ. قال: وسِبُّك: الّذي يُسابُّك وأَنشَد:
لا تَسُبَّنَّنِي فَلسْتَ بسبِّي إنَّ سِبِّي من الرّجال الكَرِيمُ
أبو العبّاس عن ابن الأعرابي: السِّبُ: الطِّبِّيجات. قلت: جعل السّبُ جمع السّبّة وهي الدُّبر.
وقال الفراء: السَّبّ القَطَع وأَنشَد:
وما كان ذنبُ بني مالكٍ بأنَّ سُبّ منهمْ غُلامٌ فسَبْ
عرَاقيبَ كُومٍ طِوالِ الذُّرَى تخرُّ بَوائكُها للرُّكَبْ
قال: أراد بقوله: «سُبَ»، أي: عُيِّر بالبُخْل فسَبَ عَراقبَ إبلِه أَنَفةً ممّا عُيِّر به. والسَّيفُ يسمَّى سَبّابَ العَراقيبِ لأَنَّهُ يقطعُها"[9] .
§ الشتم: ”شتم: قال الليث: شَتَمَ فلان فلاناً شَتْماً. وأسَدٌ شَتِيمٌ، وحمارٌ شتيم، وهو الكريهُ الوجه القبيح. ثعلب، عن ابن الأعرابي: الشَّتْمُ: قبيحُ الكلام، وليس فيه قَذف، وقال: هو يشْتِمُهُ ويَشْتُمُه، قال: والمشتَمةُ والشَّتِيمَةُ: الشَّتْم“ [10] .
ثالثاً: كتاب «جمهرة اللغة» لابن دريد المتوفى «321 ه»:
§ السبّ: "سبّ يسب سبا. وأصل السب الْقطع ثمَّ صَار السب شتماً لِأنَّ السب خرق الْأَعْرَاض. قَالَ الشَّاعِر// «مُتَقَارب» //:
فَمَا كَان ذَنْب بني مَالك بِأنَّ سبّ مِنْهُم غُلَام فسب
أَي شتم فَقطع"[11] .
§ الشتم: ”[شتم] وشتمت الرجل أشتمه شتماً وَالِاسْم الشتيمة والمشتمة أَيْضاً. وَرجل شتامة: كثير الشتم كَمَا قَالُوا عَلامَة ونسابة. وَرجل شتيم وشتام: كريه المنظر وَبِه سمي الْأسد شتيما. والشتامة الْمصدر. وَقد سمت الْعَرَب شتيما وَهُوَ أَبُو بطن مِنْهُم ومشتما“ [12] .
رابعاً: كتاب «المحيط في اللغة» للصاحب إسماعيل بن عباد «385 هـ »:
§ السبّ: ”السَّبُّ: الشَّتْمُ، والسِّبَابُ: المُشَاتَمَةُ، والسِّبُّ: الذي يُسَابُّكَ. والمَرْأةُ سِبٌّ - أيضاً -. والسَّبُّ: القَطْعُ. ويُقال للسَّيْفِ: سَبّابُ العَرَاقِيْبِ. وأصْلُ السَّبِّ: العَيْبُ. وبَيْنَهم أُسْبُوْبَةٌ: يَتَسَابُّوْنَ. ورَجُلٌ سُبَبَةٌ: يَسُبُّ النّاسَ، وسُبَّةٌ: يَسُبُّه الناسُ. والسَّبّابَةُ: الإصْبَعُ المُشِيْرَةُ، وهي المِسَبَّةُ أيضاً“ [13] .
§ الشتم: ”شتم: شَتَمَ فلأنَّ[فلاناً] شَتْماً، ومَثَلٌ: «شَتَمَكَ مَنْ بَلَّغَكَ». وأسَدٌ شَتِيْمٌ، وحِمَارٌ شَتِيْمٌ: كَرِيْهُ الوَجْهِ“ [14] .
خامساً: كتاب «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس المتوفى «395 ه»:
§ السبّ: "سب السين والباء حَدّهُ بعضُ أهل اللغة - وأظنُّه ابنَ دريد - أنَّ أصل هذا الباب القَطع، ثم اشتقّ منه الشَّتم. وهذا الذى قاله صحيح. وأكثر الباب موضوعٌ عليه. من ذلك السِّبّ: الخِمار، لأَنَّهُ مقطوع من مِنْسَجه. فأمّا الأصل فالسَّبّ العَقْر؛ يقال سبَبْت الناقة، إِذا عقرتَها. قال الشاعر:
فما كان ذنبُ بنى مالكٍ * * * بأنَّ سُبّ منهم غلامٌ فَسبّ
يريد معافرة غالب بن صعصعة وسُحيم. وقوله سُبَّ أى شُتِمَ. وقوله سَبّ أى عَقَر. والسَّبّ: الشتم، ولا قطيعة أقطع من الشَّتِم. ويقال للذي يُسابّ سِبّ. قال الشاعر:
لا تَسُبَّنَّنِى فلستَ بِسبّى * * * إنَّ سَبِّى من الرجال الكريمُ
ويقال رجل سُبَبَة، إذا كان يسُبُّ الناسَ كثيراً. ورجل سُبَّة، إذا كان يُسَبُّ كثيراً. ويقال بين القوم أُسْبُوبة يتسابُّون بها. ويقال مضت سَبَّة من الدهر، يريد مضت قطعة منه... "[15] .
§ الشتم: ”شتم الشين والتاء والميم يدلُّ على كراهةٍ وبِغضة. من ذلك الأسد الشتيم، وهو الكريه الوَجه. وكذلك الحِمار الشتيم. واشتقاقُ الشتم منه، لأَنَّهُ كلامٌ كريه“ [16] .
سادساً: تاج اللغة وصحاح العربية «صحاح الجواهري» المتوفي «393 هـ »:
§ السبّ: "السَّبُّ: الشَتمُ؛ وقد سَبَّهُ يَسُبُّهُ. وسَبَّهُ أيضاً بمعنى قَطَعَهُ. وقولهم: ما رأيته منذ سَبَّةٍ، أى مُنذ زمنٍ من الدهر، كقولك منذ سنةٍ. ومَضَتْ سَبَّةٌ من الدهرِ. والسَّبَّةُ الاسْتُ: وسَبَّهُ يَسُبُّهُ، إذا طعنه فى السَّبَّةِ. وقال: فما كان ذَنْبُ بنى مَالِكٍ * * * بأنَّ سُبَّ منهم غُلَامٌ
فَسَبّ يعنى معاقرةَ غالب وسُحَيمٍ، فقوله سُبَّ شُتِمَ، وسَبَّ عَقَرَ: والتَّسَابُّ: التشاتم. والتَّسَابُّ: التقاطُعُ. ورجلٌ مِسَبٌّ بكسر الميم: كثيرُ السِّبَابِ. ويقال: صار هذا الأمر سُبَّةً عليه، بالضم، أى عاراً يُسَبُّ به. ورجل سُبَّةٌ، أى يَسُبُّهُ الناس. وسُبَبَةٌ، أى يَسُبُّ الناسَ"[17] .
§ الشتم: ”الشَّتْمُ: السبُّ، والاسم الشَّتِيمَةُ. والتَّشَاتُمُ: التسابُّ. والمُشَاتَمَةُ: المُسَابَّةُ. والشَّتِيمُ: الرجل الكريه الوجه، وكذلك الأسد. يقال: رجلٌ شَتِيمُ المحيا. وقد شَتُمَ بالضم شَتَامَةً“ [18] .
سابعاً: كتاب «أسفار الفصيح» لأبي سهل الهروي المتوفى «433 ه»:
§ الشتم: " «وشتم يشتم» ويشتم شتما، فهو شاتم، والمفعول مشتوم: إذا سب إنسانا، أي إذا قال فيه مكروها، وذكره بقبيح. ومنه قول الشاعر:
إن من بلغ حرا شتمه فهو الشاتم لا من شتمه "[19] .
ثامناً: كتاب «شمس العلوم» للحميري «573 ه»:
§ السبّ: "السَّبُ: الشتم، قال الله تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ﴾، وفي الحديث: «لا تَسُبُّوا الإِبلِ، فإنَّ فيها رقوء الدم». والسَّبُ: العقر. سببت الناقَةَ: إِذا عقرتها وقيل: أنَّ أصل السب القطع، ثم صار الشَّتم، قال أبو الخِرق الطهوي:
فما كان ذنب بني مالك بأنَّ سُبَ منهم غلامٌ فَسَبّ
سُبّ: أي شُتم. فَسَبَ: أي عقر. والسَّبُ: الطعن في السَّبَّة. عن الجوهري"[20] .
§ الشتم: ”: الشَّتْمُ: السَّبُّ“ [21] .
تاسعاً: كتاب «لسان العرب» لابن منظور المتوفى «711 ه»:
§ السبّ: "سبب: السَّبُّ: القَطْعُ. سَبَّه سَبّاً: قَطَعه؛ قَالَ ذُو الخِرَقِ الطُّهَوِيُّ:
فَمَا كَانَّ ذَنْبُ بَني مالِكٍ،... بأنَّ سُبَّ مِنْهُمْ غُلامٌ، فَسَبْ"[22] .
§ الشتم: ”شتم: الشَّتْمُ: قَبِيحُ الْكَلَامِ وَلَيْسَ فِيهِ قَذْفٌ. والشَّتْمُ: السَّبُّ... والتَّشاتُمُ: التَّسابُّ. والمُشاتَمةُ: المُسابَّةُ؛ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا جَرى مَجْرى المَثَل: كلُّ شَيءٍ وَلَا شَتِيمةُ حُرٍّ“ [23] .
عاشراً: كتاب «القاموس المحيط» للفيروزآبادي المتوفي «817 ه»:
§ الشتم: ”شتمه يشتمه ويشتمه شتما ومشتمة ومشتمة فهو مشتوم وهي مشتومة وشتيم: سبه والاسم: الشتيمة. وشاتما وتشاتما: تسابا. والشتيم: الكريه الوجه وقد شتم ككرم والأسد العابس كالمشتم كمعظم والشتامة“ [24] .
الحادي عشر: كتاب «مجمع البحرين» للطريحي المتوفي «1085 هـ »:
§ السبّ: ”والسب الشتم، ومثله“ السباب ”بالكسر وخفة الموحدة. ومنه“ سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر ”أي شتمه وقطيعته فسوق واستحلال مقاتلته وحربه كفر، أو محمول على التغليظ لا الحقيقة. ومنه حديث معاوية لرجل:“ ما منعك أنَّ تسب أبا تراب؟ ”يعني علياً . وفي حديث علي في مرون بن الحكم:“ لو بايعني بيده لغدر بسبته ”السبة: الاست، وذكرها تفظيعا له وطعنا عليه، والمعنى انه منافق. وامرأة سبت جاريتها: شتمتها. والتساب: التشاتم. وسبه يسبه: قطعه والتساب: التقاطع. و“ رجل مسب ”بكسر الميم: كثير السباب“ [25] .
§ الشتم: ”الشتم: السب، بأنَّ تصف الشئ بما هو إزراء ونقص، يقال: شتمه شتما من باب ضرب، والاسم: الشتيمة“ [26] .
مما سبق يتضح:
§ أنَّ أصل السبّ هو القطع، فسبّه بمعنى قطعه، ولذا يُقال: ما رأيته منذ سبّة أي منذ زمن من الدهر، ومضت سبّة من الدهر. والسَّيفُ يسمَّى سَبّابَ العَراقيبِ لأنّه يقطعُها، وجاء في الحديث: ”سبّاب المؤمن فسوق وقتاله كفر“ أي شتمه وقطيعته كما ذكر الطريحي.
§ السبّ هو العقر، يُقال: سبّبت الناقة إذا عقرتها «ابن فارس».
§ السبّ هو الشتم، ولا قطيعة أقطع من الشتم «ابن فارس». والشتيم، وهو الكريه الوَجه وتم اشتقاقُ الشتم منه، لأنّه كلامٌ كريه «ابن فارس». ولذا ذهب العديد من اللغويين للقول أنَّ المراد من الشتم هو: قبيح الكلام، وليس فيه قذف «كالأزهري وابن منظور»، وهذا المعنى ينسجم مع ما جاء في معاني السبّ الأخرى كالقطع والعقر أكثر من المعنى الذي ذكره الطريحي حول مفردة «الشتم»، علماً بأنَّ الطريحي نفسه ذكر أيضاً ما ينسجم مع ما تناولناه سابقاً في حديثه حول مفردة «السبّ»، حيث قال: ”السبّ: والسبّ الشتم، ومثله“ السبّاب ”بالكسر وخفة الموحدة. ومنه“ سبّاب المؤمن فسوق وقتاله كفر ”أي شتمه وقطيعته فسوق واستحلال مقاتلته وحربه كفر، أو محمول على التغليظ لا الحقيقة... والتساب: التشاتم. وسبّه يسبّه: قطعه والتساب: التقاطع. و“ رجل مسبّ ”بكسر الميم: كثير السبّاب“ [27] .
والغريب أنَّ الشيخ السندي نقل ما ذكره الطريحي حول مفردة «الشتم»، ولكنه لم ينقل ما ذكره حول مفردة «السبّ»، ولعل ذلك يعود لكون ما ذكره حول مفردة «الشتم» يتناسب أكثر مع ما يروم إليه!
لا يصح الاكتفاء باللغة لفهم المراد الجدي
حتى لو افترضنا صحة كلام الشيخ السندي من أنَّ السبّ لغوياً يشمل كل وصف يشتمل على تنقيص على إطلاقه، إلا أَنَّهُ لا يصح الاكتفاء بما ورد في المعاجم اللغوية وتطبيق ذلك مباشرة على القرآن الكريم دون الاستناد إلى قرائن أخرى تؤكد المعنى، لأنَّ المعنى اللغوي ليس بالضرورة يوافق المراد الجدي للمتكلم، خصوصاً وأنَّ الأساليب اللغوية فيها من الكناية والاستعارة وغيرها من الفنون الأدبية الأخرى، ولذا لابد من الاعتماد على شواهد وقرائن أخرى تؤكد المعنى المراد وتُدلل عليه، فمثلاً من غير الصحيح الاكتفاء بما ورد في كتب اللغة لمعرفة المراد من «أهل البيت» الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم في آية التطهير أو الاكتفاء بما ورد في اللغة لمعرفة المراد من «المولى» في آية الولاية، وكذلك الأمر بالنسبة للمراد ب «أولوا الأمر» وغيرها من الموارد الأخرى، بل لابد من توفر قرائن وشواهد أخرى معها تؤكد المراد الجدي، إذ لا يصح أبداً الاعتماد كلياً على ما ورد في المعاجم اللغوية لمعرفة المراد الجدي رغم أهمية الرجوع إليها وضرورته.
السبّ والشتم في كلمات المفسرين وعلماء القرآن
بعد أنَّ انتهينا من بحث المراد من «السبّ» في كلمات الشيخ الدهنين، وكذلك بعد أنَّ تعرفنا على المراد منها في كلمات اللغويين؛ من المهم بيان ما استفاده المفسرون وعلماء القرآن من معناها اللغوي، وذلك لأنَّ كلام الشيخ الدهنين كان حول «السبّ في القرآن الكريم»، ولذا من غير الصحيح الاكتفاء أو التركيز على ما ذكره الفقهاء في هذا الشأن أكثر مما ذكره علماء التفسير وعلوم القرآن كما فعل الشيخ السندي[28] .
والغريب أنَّ الشيخ السندي نقل كلاماً مُرسلاً ومجهولاً عن بعض من أسماه بالمحققين، وذلك رداً على سؤال يتعلق بحقيقة وقوع السبّ في القرآن الكريم، حيث قال: ”... حتى أنَّ بعض المحققين العظام قال معلقاً على من أنكر وقوع السبّ في القرآن وصدوره من الأئمة وورود جوازه بل الأمر به بأَنَّهُ يعتمد في ثقافته على التلفاز أو الجرائد والمجلات دون أنَّ يعطي التحقيق حقه والتدقيق مجاله ويكلف نفسه مراجعة الأدلة الشرعية المقررة. وطبعاً يقول هذا بعد حمل كلام من نفى السبّ على إرادة خصوص القبيح منه وأَنَّهُ إطلاق غير مقصود“ [29] .
لذا سوف ننقل بعض آراء علماء التفسير وعلوم القرآن ممن أنكروا وقوع السبّ في القرآن الكريم أو ذهبوا إلى كونه منافٍ للأخلاق، علماً بأنَّ هذا المعنى هو المعنى نفسه الذي يُفهم من كلمات الشيخ الدهنين، ومن البحث اللغوي على بعض الآراء، وهذا ما سيثبت لنا وبكل وضوح بطلان ما نقله الشيخ السندي عن من أسماه ببعض المحققين، وسوف نقوم بنقل آراء هؤلاء العلماء بحسب الأقدمية الزمانية أيضاً في التالي:
§ أولاً: الشيخ الطوسي المتوفى «460 هـ » في التبيان، حيث يقول: ”والسبّ الذكر بالقبيح ومثله الشتم والذم وهو الطعن فيه بمعنى قبيح، كما يطعن فيه بالسنان، وأصله السبب، فهو تسبب إلى ذكره بالعيب“ [30] .
§ ثانياً: الرغب الاصفهاني المتوفى «502 ه» في المفردات في غريب القرآن[31] : ”والسب الشتم الوجيع قال «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم» وسبهم لله ليس على أنهم يسبونه صريحا ولكن يخوضون في ذكره فيذكرونه بما لا يليق به ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما تنزه تعالى عنه...“ [32] .
§ ثالثاً: الشيخ الطبرسي المتوفى «548 هـ » في مجمع البيان، حيث يقول: ”السب: الذكر بالقبيح، ومنه الشتم والذم، وأصله السبب، كأَنَّهُ يتسبب إلى ذكره بالقبيح، وسبك الذي يسابك، وقال: لا تسبنني فلست بسبي إنَّ سبي من الرجال الكريم وقيل: أصل، السبّ القطع“ [33] .
§ رابعاً: الفيض الكاشاني المتوفى «1091 هـ » في تفسير الصافي والمصفى، حيث يقول في الصافي حول الآية ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: ”ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح“ [34] . وفي تفسير الأصفى يقول أيضاً: ”ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدون، بما فيها من القبايح «فيسبوا الله عدوا»: تجاوزا عن الحق إلى الباطل «بغير علم»: على جهالة بالله وبما يجب أنَّ يذكر به“ [35] .
§ خامساً: الآلوسي في روح المعاني «1270 هـ »: ”﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي لا تشتموهم ولا تذكروهم بالقبيح...“ [36] .
§ سادساً: محمد رشيد رضا في تفسير المنار «1354 هـ »: ”الذَّمُّ: الْوَصْفُ بِالْقَبِيحِ، وَالسَّبُّ وَالشَّتْمُ: مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْيِيرُ وَالتَّشَفِّي مِنَ الذَّمِّ، سَوَاءٌ كان مَعْنَاهُ صَحِيحًا وَاقِعًا أَوْ إِفْكًا مُفْتَرًى. وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾“ [37] .
§ سابعاً: الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير «1393 هـ »: ”والسبّ: كلام يدلّ على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرّة، بالباطل أو بالحقّ، وهو مرادف الشّتم. وليس من السبّ النسبةُ إلى خطإ في الرّأي أو العملِ، ولا النّسبة إلى ضلال في الدّين. والمخاطب بهذا النّهي المسلمون لا الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنَّ الرّسول لم يكن فحّاشاً ولا سبّاباً لأنَّ خُلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك، ولأَنَّهُ يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن فإذا شاء الله تركه من وحيه الّذي ينزله، وإنّما كان المسلمون لغيرتهم على الإسلام ربّما تجاوزوا الحدّ ففرطت منهم فرطات سبّوا فيها أصنام المشركين“ [38] .
تعليق: إنَّ كلام ابن عاشور هنا قد يقترب من كلام الطريحي نوعاً ما، خصوصاً في قوله أنَّ السبّ: ”كلام يدلّ على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرة“، ولكن مع ذلك لا يمكن الاستفادة منه لإثبات وقوع السبّ في القرآن الكريم، وذلك لأمرين:
- الأول: أَنَّهُ ذكر أَنَّهُ ليس من السبّ النسبة إلى خطأ في الرأي أو العمل، ولا النسبة إلى ضلال في الدين، وبعض الأمثلة التي ذكرها الشيخ السندي لإثبات وقوع السبّ في القرآن الكريم تدخل في هذا الإطار.
- الثاني: وهو الأهم، قوله أنَّ الرسول الأكرم ﷺ لم يكن فحاشاً ولا سباباً، حيث اعتبر ذلك أمور سلبية يقف خلق الرسول حائل بينه وبينها، مما يعني أنَّ السبّ عند ابن عاشور يأتي مقابلاً للأخلاق، وهذا المعنى يأتي خلافاً للمعنى الذي أراده الشيخ السندي كما هو واضح.
§ ثامناً: الشيخ الشعراوي المتوفى «1419 هـ » في تفسيره، حيث يقول: ”والسبّ هو ذكر القبيح، والشتم، والذم، والهجاء...“ [39] .
§ تاسعاً: العلامة الطباطبائي المتوفى «1402 هـ » في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[40] ”والآية تذكر أدباً دينياً تصان به كرامة مقدسات المجتمع الديني وتتوقى ساحتها أن يتلوث بدرن الإهانة والإزدراء بشنيع القول والسبّ والشتم والسخرية ونحوها فإن الإنسان مغروز على الدفاع عن كرامة ما يقدسه، والمقابلة في التعدي على من يحسبه متعدياً إلى نفسه، وربما حمله الغضب على الهجر والسبّ لما له عنده أعلى منزلة العزة والكرامة فلو سبّ المؤمنون آلة المشركين حملتهم عصبية الجاهلية أن يعارضوا المؤمنين بسبّ ما له عندهم كرامة الألوهية وهو الله عز اسمه ففي سبّ آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى بما لا يليق بساحة قدسه وكبريائه. وعموم التعليل المفهوم من قوله: ﴿كذلك زينا لكل أمة عملهم﴾ يفيد عموم النهي لكل قول سيء إلى ذكر شيء من المقدسات الدينية بالسوء بأي وجه أدى“ [41] .
يُفهم من كلام السيد الطباطبائي هنا أَنَّهُ اعتبر السبّ من القول السيء، بل إِنَّهُ يصرح بهذا بعد ذلك بقوله: ”على أن وقار النبوة وعظيم الخلق الذي كان في عشرته صلى الله عليه وآله كان يمنعه من التفوه بالشتم الذي هو من لغو القول، والذي ورد من لعنه بعض صناديد قريش بقوله: اللهم العن فلاناً وفلاناً، وكذا ما ورد في كلامه تعالى من قبيل قوله: ﴿لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ﴾: «النساء: 46» وقوله: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾: «المدثر: 19» وقوله: ﴿قُتِلَ الْإِنْسانُ﴾: «عبس: 17» وقوله: ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾: «الأنبياء: 67» ونظائر ذلك فإنما هي من الدعاء دون الشتم الذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلاً، والذي ورد من قبيل قوله تعالى: ﴿مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ﴾: «القلم: 13» فإنما هو من قبيل بيان الحقيقة. فالظاهر أنَّ العامة من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله ربما أداهم المشاجرة والجدال مع المشركين إلى ذكر آلهتهم بالسوء كما يقع كثيراً بين عامة الناس في مجادلاتهم فنهاهم الله عن ذلك“ [42] .
تعليق: في المقطع الأخير يتضح جلياً أنَّ العلامة الطباطبائي يرى أنَّ السبّ والشتم منافٍ للأخلاق، حيث ذكر أنَّ الشتم من لغو القول، وهو ”الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلاً“ [43] .
§ عاشراً: السيد محمد باقر الحكيم في كتابه «علوم القرآن»، حيث يقول: ”إِنَّهُ ليس في القرآن الكريم سبّاب وشتم كيف وقد نهى القرآن نفسه في القسم المكي عن السبّ والشتم، حيث قال تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ...﴾. وليس في سورة «المسد» أو «التكاثر» سبّ أو بذاءة - كما يحاول المستشرقون أنَّ يقولوا ذلك - وانما فيهما تحذير ووعيد بالمصير الذي ينتهي إليه أبو لهب والكافرون بالله. نعم، يوجد في القرآن الكريم تقريع وتأنيب عنيف، وهو موجود في المدني كما هو في المكي - وإنَّ كان يكثر وجوده في المكي - بالنظر لمراعاة ظروف الاضطهاد والقسوة التي كانت تمر بها الدعوة، الامر الذي اقتضى أنَّ يواجه القرآن ذلك بالعنف والتقريع - أحياناً - لتقوية معنويات المسلمين من جانب، وتحطيم معنويات الكافرين من جانب آخر“ [44] .
§ الحادي عشر: السيد فضل الله في كتابه من وحي القرآن، حيث يقول: ”﴿تَسُبُّواْ﴾: تشتموا، والسبّ: الذكر بالقبيح، ومنه: الشتم والذم، وأصله: السبب، كأَنَّهُ يتسّبب إلى ذكره بالقبيح، وقيل: أصل السبّ القطع“ [45] .
§ الثاني عشر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير الأمثل: ”يروى أنَّ بعض المؤمنين كانوا يتألمون عند رؤيتهم عبادة الأصنام، فيشتمون أحياناً الأصنام أمام المشركين، وقد نهى القرآن نهياً قاطعاً عن ذلك، وأكد إلتزام قواعد الأدب واللياقة حتى في التعامل مع أكثر المذاهب بطلاناً وخرافة. أنَّ السبب واضح، فالسبّ والشتم لا يمنع أنَّ أحداً من المضي في طريق السبب، مدفوعين بوسوسة الشيطان «تأمل بدقة»“ [46] .
تعليق: يُفهم من كلام الشيخ مكارم شيرازي هنا أنَّ الأدب واللياقة تقع في قبال السبّ والشتم[47] .
بعد كل ما نقلناه آنفاً؛ من الغريب أنَّ ينسب الشيخ السندي لعلماء التفسير وعلوم القرآن نفس ما ذهب إليه في مسألة السبّ في القرآن الكريم، وذلك في قوله: ”وأنَّ من أعظم أساليب الهداية والتربية القرآنيّة تأصيل مبدأ الولاية لكل من يرتبط بالله وتعظيم ما يمت إليه بصلة، وتأصيل مبدأ البراءة من أعداء الله المرتبطين بحزم الشيطان فكراً وسلوكاً، ومن مظاهر البراءة اللعن والسبّ، وهذا أمر جلي وواضح، يظهر بما ذكرناه سابقاً وبما ذكره المتخصصون في علوم القرآن والحديث“ [48] .
والأغرب من ذلك أيضاً أنَّ ينسب إنكار وجود السبّ في القرآن الكريم لبعض المثقفين والمتثيفون بالشعارات الغربية البراقة بحسب تعبيره، وليس لبعض علماء التفسير وعلوم القرآن[49] ، والأنكى من ذلك كله؛ أنَّ يصف السبّ بكونه ثقافة قرآنيّة وأنَّ من يقف ضده هو ممن يريد ”استبدال الثقافة القرآنيّة بثقافة الغرب“ [50] ، رغم أننا نقلنا آنفاً العديد من آراء العلماء المتخصصون في التفسير وعلوم القرآن الذين يرفضون ما ذهب إليه في هذه المسألة.
ومما لا يكاد ينقضي منه العجب أيضاً أنَّ الشيخ السندي نفسه بعد كل هذه الأقوال يقر ويعترف بوجود علماء كالسيد الطباطبائي يُفهم من ظاهر كلامهم نفي السبّ عن القرآن الكريم، ولكنه مع ذلك يُصر على موقفه، ويحاول توجيه كلامهم بخلاف ظاهره، وذلك بالقول بأنهم لم يكونوا يقصدون الظاهر من كلامهم، حيث يقول تحت عنوان «توجيه كلام من أنكر وقوع السبّ»: ”غير أنَّ وضوح وقوع السبّ في الكتاب والسنة، ووضوح جوازه وعدم قبحه، يجعلنا نوجه كلام من نفى السبّ مطلقاً من علمائنا بأنه لا يريد نفي كل سبّ، وفي كلامه اطلاق غير مقصود، فهو يريد نفي خصوص السبّ القبيح، ولكن حيث أنَّ السبّ ينصرف إلى خصوص السبّ القبيح في ذهنه أطلق العبارة...“ [51] .
ورغم محاولة الشيخ السندي توجيه كلام من نفى السبّ عن القرآن كالسيد الطباطبائي بخلاف ظاهره إلا أنه لم يستطع إثبات ذلك. نعم، صحيح أن الشيخ السندي ناقش السيد الطباطبائي في الكلام الذي نقلناه عنه سابقاً حول السبّ[52] ، وبعدها حاول توجيه كلامه بأَنَّهُ لم يكن يقصد ما يتبادر من ظاهره، ولكن فات الشيخ السندي أنَّ السيد الطباطبائي لم يؤكد هذا الرأي في هذا المورد فحسب، وإنما هناك موارد أخرى أيضاً، منها ما ذكره في ذيل قوله تعالى: ﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾[53] بقوله: ”وبسط الأيدي بالسوء كناية عن القتل والسبي وسائر أنحاء التعذيب وبسط الألسن بالسوء كناية عن السبّ والشتم“ [54] .
لاحظوا هنا أنَّ السيد الطباطبائي ذكر أنَّ «بسط الألسن بالسوء» هو كناية عن السبّ والشتم، وهذا ما ينسجم مع ما ذكره في المورد الذي نقلناه عنه سابقاً، فكيف يكون غير قاصداً لهذا المعنى، وهو يكرر مضمونه في أكثر من مورد ومناسبة.
الشيخ التبريزي وكلامه حول السبّ
تحت عنوان «مناقشة من حكم بقبح السبّ مطلقاً استناداً إلى «إني أكره أنَّ تكونوا سبابين» وكلام المرجع الكبير الشيخ التبريزي في عدم حرمة كل سبّ» نقل الشيخ السندي قول الشيخ التبريزي في زيارة عاشوراء فوق الشبهات، ومما جاء فيما نقله ما يلي: ”وخامساً: أنَّ هناك فرقاً لغوياً وعرفياً واضحاً بين السبّ واللعن، فالسبّ هو التعريض بالشرف والعرض بينما اللعن دعاء بطلب الطرد من رحمة الله، فالنهي عن الأول لا يستلزم النهي عن الثاني، وبذلك يتضح عدم صحة الاستدلال على مرجوحية اللعن بما ورد في المنصوص من ذم الفحاش البذيء اللسان فإن الفحش والبذاءة وسوء القول من مصاديق السبّ، والنهي عن السبّ بتمام مصاديقه لا يستلزم النهي عن اللعن“ [55] .
تعليق: نلاحظ هنا أنَّ كلام الشيخ التبريزي يتناسب أكثر مع ما ذكرناه حول كون السبّ يتنافى مع الأخلاق أو «الذكر بالقبيح»، وبالخصوص في قوله: ”فالسبّ هو التعريض بالشرف والعرض“، ولكن الشيخ السندي أورد هذا في مناقشة الاستدلال برواية «إني أكره لكم أنَّ تكونوا سبابين»، وذلك لرفض الاستدلال بها على النهي عن ممارسة السبّ واللعن، غير أَنَّهُ غفل عن أنَّ في هذا النص عبارات تتضمن الطعن في المعنى الذي أراده من كون السبّ والشتم ليس كلاماً قبيحاً ويتنافى مع حدود الأخلاق بالضرورة.
السبّ عند السيد الخوئي والشيخ الخشن
ما ذكره الشيخ السندي من القول بأن كل وصف يشتمل على تنقيص فهو من السبّ[56] يختلف عن ما ذكره الشيخ حسين الخشن الذي يشترط أنَّ يقصد منه الإهانة، حيث قال الأخير تحت عنوان «معنى السبّ»: ”السبّ أو الشتم هو عبارة عن توصيف الآخر بما فيه إزدراء به بقصد إهانته“ [57] .
ونجد الأمر نفسه أيضاً عند السيد الخوئي الذي يرى ضرورة أنَّ يوجب السبّ اهانة المسبوب وهتكه، إذ لا يتحقق السبّ عنده إلا بقصد الهتك، حيث قال في «مصباح الفقاهة»: ”أقول: الظاهر من العرف واللغة اعتبار الاهانة والتعيير في مفهوم السبّ وكونه تنقيصاً وازرءاً على المسبوب وانه متحد مع الشتم، وعلى هذا فيدخل فيه كلما يوجب اهانة المسبوب وهتكه، كالقذف والتوصيف بالوضيع واللا شئ، والحمار والكلب والخنزير، والكافر والمرتد، والابرص والاجذم والاعور، وغير ذلك من الالفاظ الموجبة للنقص والاهانة، وعليه فلا يتحقق مفهومه الا بقصد الهتك، وأما مواجهة المسبوب فلا تعتبر فيه“ [58] .
والغريب أنَّ الشيخ السندي أورد هذا الكلام للسيد الخوئي وعلق عليه بقوله: ”فكل ما يوجب النقص والاهانة بقصد الهتك سب...“ [59] . علماً أنَّ هناك فرقاً بين ممارسة التنقيص والازدراء دون أن يقصد به الهتك كما ذكر الشيخ السندي في السابق، وبين ضرورة أنَّ يقصد به الهتك كما ذكر السيد الخوئي في هذا النص وعلق عليه الشيخ السندي بالتأكيد، فتعليقه على كلام السيد الخوئي يختلف عن كلامه الأول، ففي البداية لم يشر إلى ضرورة أنَّ يكون هناك قصد للهتك، وإنما أطلق العبارة بالقول بأنَّ كل وصف يشتمل على تنقيص فهو من السبّ دون أنَّ يقيدها، وكرر ذلك في أكثر من مورد منها الموارد التالية:
§ الأول: في كتابه «أطروحات في العمق الثقافي الثقافي»: ”أقول: فكل قول يفيد النقص فهو سبّ وشتم، ومن ذلك قول: كافر، مجرم، عدو لله، منافق، بخيل، وضيع، تافه، ظالم، دكتاتوري، فاشي، قدة سرطانية، تسقيطي، متخلف، أنصاف معممين، أنصاف مثقفين، وما أكثر ما نستعمل هذه الألفاظ في حياتنا اليومية مع الذين نراهم مستحقين لها“ [60] . ويقول في نفس الكتاب أيضاً: ”وكيف كان، سواء كان الوصف التنقيصي للذات أو الفعل أو العرض، فإِنَّهُ مندرج ضمن السبّ لغةً، لأَنَّهُ ذكر للشيء بما هو إزدراء ونقص“ [61] .
§ الثاني: في مقال نشره بعنوان «إنارة حول السبّ في القرآن» كرر فيه الكلام السابق بتمامه، فلا حاجة لإعادته ثانية[62] .
§ الثالث: في مقالة له للدفاع عن الشيخ الدهنين والمُعنون ب «هل كلام العلامة الدهنين في «السبّ» صحيح؟»، حيث قال بعد إيراد أقوال اللغويين: ”والمتحصل من كلامهم: أنَّ السبّ هو القول الذي يفيد النقص والازدراء والطعن والنيل والوقيعة وهذا ينطبق على طعن الشخص في فكره وسلوكه نسبه وأهله وجسده فيندرج فيه قول: «كافر مجرم عدو لله منافق بخيل وضيع تافه ظالم دكتاتوري، فاشي غدة سرطانية، تستقيطي متخلف أنصاف معممين أنصاف مثقفين، غوغاء حمار غبي دعي لقيط»، وما أكثر ما نستعمل هذه الألفاظ في حياتنا اليومية مع الذين نراهم مستحقين لها، وبعضها يصدر من كبراء الشيعة“ [63] .
ومن أجل ذلك اعتبر الشيخ السندي العديد من الآيات القرآنية من السب، إذ يقول: ”لا إشكال في أن القرآن ذكر أقواماً ذاماً لهم ومحقراً، وواصفاً لهم بما يدل على التوهين والحط، والباري تعالى يعلم بمفاد ما استعمل من ألفاظ تدل على الحط كما نعلم نحن بأنه يحتقر المقول فيه ويستخف به ومن تلك الآيات الكثيرة: قوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾، وقوله: ﴿أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾ وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾ وقوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنَّ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ وقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾ وقوله: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ وقوله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ وقوله: ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ وقوله: ﴿هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ وقوله: ﴿مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ وقوله: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ﴾ وينطبق على هذه مفهوم السب جزماً، إلا أن يقال هذا لا يدل على الذم والحط والتنقيص وإنما هو من قبيل وصف لون الجدار أو طول الجبل أو شروق الشمس، وهل ترى أيها القارئ العربي هذا مستقيماً يقبله من عنده أدنى معرفة بلغة العرب!“ [64] .
فكل هذه الآيات اعتبرها الشيخ السندي دليلاً على وجود السبّ في القرآن الكريم لكونها تحتوي على وصف بالتنقيص، ولذا نجده يتحدث حول استعمال الوصف بالحيوانات في بعض الآيات بقوله: ”هل جاء به القرآن بداعي الذم أو المدح؟ أو بداعي بيان كمال أو نقص؟ إذا كان بداعي بيان نقص فهو سبّ؛ لأنَّ السبّ في اللغة: الكلام الذي فيه تنقيص، ولا يشترط أنَّ يكون تنقيصاً بذكر نقص الذات، بل يكفي السلوك أو الوصف“ [65] .
ولكن الشيخ السندي قد خالف نفسه ولم يعتبر كل وصف يدلّ على تنقيص سبّاً على إطلاقه، وذلك عندما استشهد بكلام السيد الخوئي الذي يشترط فيه قصد الهتك كما مر بنا. علماً بأنَّ هناك موارد واضحة قد لا تعتبر سبّاً وإنَّ قصد بها التنقيص، فمثلاً عندما تقول بأنَّ الطالب الفلاني أخفق في الامتحان فلا يعتبر ذلك سباً رغم أَنَّهُ يشتمل على تنقيص، وكذلك عندما تنتقد رأياً أو عملاً، وهذا ما ذكره ابن عاشور التونسي في قوله: ”وليس من السبّ النسبةُ إلى خطأ في الرّأي أو العملِ، ولا النّسبة إلى ضلال في الدّين إنَّ كان صدر من مخالف في الدّين“ [66] .
هل كلام الشيخ الوحيد الخراساني وتوصيفه بالكلب من السبّ؟!
عندما انتقد أحد الشخصيات الدينية الأحسائية البارزة الشيخ الوحيد الخراساني لاستخدامه التوصيف بالكلب في كتابه «مقتطفات ولائية» بقوله: ”... وإلا فلسنا في مقام كلب مد على أعتاب دارهم ذراعيه وهز أمامهم ذنبه... كلاً، فنحن أقل من كلب وأسوأ!...“ [67] . وجدنا البعض ومنهم الشيخين الدهنين والسندي لم يعتبروا كلام الشيخ الوحيد الخراساني من قبيل السبّ مع أَنَّهُ توصيف يشتمل على تنقيص، رغم أنَّ هذا ينسجم تماماً مع المعنى الذي نافح الشيخ السندي من أجل إثباته للسبّ، بل وجدناه هو والشيخ الدهنين وأتباعه لم يدخروا جهداً لمهاجمة من ينتقد كلام الشيخ الوحيد الخراساني، ووجدناهم أيضاً يدافعون عنها ويؤولونها ولا يعتبرونها من قبيل السبّ رغم كونها انتقاصاً واضحاً، وذلك لكونه استعمل التشبيه بحيوان «الكلب» في مقام التنقيص!!
رأي السيد الخباز في مسألة السبّ في القرآن الكريم
بخلاف الشيخين الدهنين والسندي يؤكد السيد منير الخباز - حفظه الله - على أهمية ملاحظة قرينة السياق في مسألة السبّ حتى يمكن الحكم على مسألة بأَنَّهَا سبّ أو لا، سواءً كان السياق في العمل «الأفعال» من خلال ما يُفهم منه أو من خلال سياق الكلام. ولتوضيح ذلك يذكر أمثلة لهذين الأمرين[68] :
§ أولاً: حول سياق العمل «الأفعال»: أحياناً يدخل عليك في المجلس إنسان محترم فتقوم له، فهنا يُعدّ القيام احتراماً له؛ لأنَّ سياق ذلك كان للاحترام. وأما لو دخل عليك إنسان وتريد أنَّ تسخر به، فتقوم له وربما تبالغ في الترحيب به، ولكن مع ذلك فإن هذا لا يُعتبر احتراماً، بل سخريةً؛ لأَنَّهُ جاء في سياق السخرية والمزاح.
§ ثانياً: سياق الكلام: عندما تمر بإنسان جالس في الشارع، فتقول وأنت تريد أن تذمه: هذا إنسان ساقط أو دوني أو فيه ما فيه. فهنا جاء الكلام في سياق الذم، ولذلك يُعد سبّاباً ويكون أمراً مذموماً. أما عندما يأتي الوالد ويشتكي للمعلم على ولده قائلاً: ولدي إنسان منحرف أو ولدي لا يُبالي بالمعاصي أو ولدي إنسان عاق لوالديه، فإن هذا لا يُعتبر سبّاباً؛ لأَنَّهُ جاء من الأب في سياق تربيته، وفي سياق نصيحته. وكذلك أيضاً عندما يقف المدرس أمام تلامذته ويقول لهم للتشجيع: فلانّ متفوق أو مبدع، فإن هذا جاء في سياق تحفيزهم على أنَّ يكونوا مثله. وكذلك عندما يقول لهم في المقابل للتنبيه: فلان كسول أو متخلف في دراسته أو لا يبالي بالمذاكرة، فإن هذا لا يُعد سبّاباً؛ لأَنَّهُ جاء في سياق تنبيههم على ألا يكونوا مثله.
بعد ذلك يلخص السيد الخباز كلامه حول علاقة السياق بمسألة السب بقوله: ”ليس كل وصف قاسٍ سبّاباً، وليس كل لعن ذميماً، بل لا بد من أنَّ نقرأ سياقه الذي صدر فيه، فإذا صدر هذا الوصف القاسي في سياق التربية فهذا ليس سبّاباً، وإذا صدر الوصف القاسي في سياق الذم فهو سبّابٌ“ [69] .
ويضرب مثالين من القرآن الكريم لتوضيح مراده وهما:
§ الأول: حول قوله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾[70] . ويبين أنَّ الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة: ”لا يصف جماعة معينة، بل هو في مقام طرح قضية تربوية عامة، يقول: الأوصاف الموصوفون بهذه الأوصاف احذرهم، لا تكن معهم، فهذا ليس وصفاً لأشخاص حتى يعد سبّاباً، وإنما هو طرح لقضايا تربوية عامة، على الإنسان أنَّ يحذر من هؤلاء الموصوفين بهذه الأوصاف“ [71] .
§ الثاني: قوله تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[72] . حيث يقول السيد الخباز حول هذه الآية: ”هذه الكلمة لم تأتِ في سياق الذم حتى تعد سبّاباً، وإنما جاءت في سياق التحذير من خطرهم. مثلما أنا أحذّر ابني، أقول: ابني فلان خطر، فلان منحرف، لا تقم علاقةً معه، كذلك أيضاً الله «تبارك وتعالى» يحذّر المسلمين ألا يخدعهم المنافقون: ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾“ [73] .
وبعدها يصل السيد الخباز إلى النتيجة بقوله: ”إذن، القرآن الكريم ما ورد فيه من الأوصاف القاسية ما كان في سياق الذم حتى يعد سبّاباً يتنافى مع المنطق القرآني أو يتنافى مع المنطق التربوي، وإنما جاء في سياق التربية، سياق التحذير، سياق التنبيه، سياق التعليم، فلا يعد سبّاباً“ [74] .
ومن الواضح بأن كلام السيد الخباز حول مسألة السب يختلف تماماً مع ما ذكره الشيخين الدهنين السندي.. فتأملوا!!
مناقشة أدلة الشيخ الدهنين حول السبّ
الدليل الأول: قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾
بناءً على ما يُفهم من سياق كلام الشيخ الدهنين من كون السبّ يقع في قبال الأخلاق، فإِنَّهُ لابد من إثبات أنَّ هذه الآية المباركة احتوت على أمور منافية للأخلاق أولاً، وذلك لكي يصح استدلاله بها على وجود السبّ في القرآن الكريم، وبعد ذلك لابد من السعي لإثبات تكريسه وتشجيعه لاتخاذه منهجاً لممارسته كثقافة عامة تجاه المنحرفين، غير أنَّ الشيخ الدهنين لم يقم بذلك أبداً، بل ولم يتناول المراد من الآية اطلاقاً، وكل ما فعله هو الاكتفاء بالاستشهاد بها على مسألة السب في القرآن الكريم.
ما هو المراد ب «تب» في اللغة؟
يقول السيد الطباطبائي في الميزان في ذيل قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ ما يلي:
”التب والتباب هو الخسران والهلاك على ما ذكره الجوهري، ودوام الخسرآن لى ما ذكره الراغب، وقيل: الخيبة، وقيل الخلو من كل خير والمعاني - كما قيل - متقاربة فيد الإنسان هي عضوه الذي يتوصل به إلى تحصيل مقاصده وينسب إليه جل أعماله، وتباب يديه خسرانهما فيما تكتسبانه من عمل وأنَّشئت فقل: بطلان أعماله التي يعملها بهما من حيث عدم انتهائها إلى غرض مطلوب وعدم انتفاعه بشيء منها وتباب نفسه خسرانها في نفسها بحرمانها من سعادة دائمة وهو هلاكها المؤبد“ [75] .
ولذا يمكن القول بأنَّ المراد ب «تب» في اللغة هو الخسران المنتهي إلى الهلاك، وهذا المعنى اللغوي منسجم تماماً مع ما جاء في آيات أخرى في القرآن الكريم استعملت نفس المفردة كما في الموردين التاليين[76] :
§ الأول: في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾[77] . أي في خسارة وهلاك وتلاشي نتيجته الخيبة، بمعنى أنَّ كل هذا الذي يكيده فرعون ويحتاله ويخطط له كله إلى خسارة، وليس هناك أي رجاء منه، إذ لن يحصل من وراءه إلى نتيجة وستذهب كل جهوده سدى.
§ الثاني: قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾[78] . تتبيب بمعنى تخسير، وقد ورد في آية أخرى عن لسان النبي صالح قوله: ﴿فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾[79] . ف تتبيب في الآية الأولى وتخسير في الآية الثانية تعطي نفس المعنى.
لذا يتضح لنا من خلال استخدام القرآن الكريم لهذه المفردة بنفس معناها اللغوي أنَّ التباب هو الخسران المتتالي المنتهي للهلاك والخيبة، وهذا يعني أنَّ التباب أشد من مجرد الخسران العادي أي عدم الربح فقط. وبهذا يكون معنى الآية المباركة في قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ أي خسر أبو لهب خسراناً مبيناً منتهي إلى الهلاك والخيبة.
وإذا كان هذا هو المراد من الآية المباركة، فهل يُفهم منها ما يتنافى مع الأخلاق حتى نقول بأَنَّهَا احتوت على سبّ بحسب المعنى الذي يُفهم من سياق كلام الشيخ الدهنين؟! بالطبع لا، لأنَّ أجواء الآية بعيدة كل البعد عن هذا الأمر، وإذا كان السبّ غير موجود فيها بهذا المعنى «منافٍ للأخلاق»، فلا يمكن الاحتجاج بها أيضاً على تكريس القرآن الكريم وتشجيعه لممارسة هذه الثقافة واتخاذها منهجاً، لأنَّ هذا الأمر يأتي في رتبة لاحقة لإثبات وجود السبّ في الآية المباركة.
لكن لو افترضنا ثبوت السبّ في الآية - وهو غير ثابت بناءً على المعنى الذي يُفهم من سياق كلام الشيخ الدهنين «ما يتنافى مع الأخلاق» - فهل يُمكن القول بأنَّ الآية تكرس لممارسة ثقافة السبّ واتخاذها كمنهج عام في التعامل مع المنحرفين أم لا؟!
أستطيع أنَّ أقول لا، وذلك لأنَّ الآية جاءت في مقام الإخبار وليس الإنشاء[80] ، ومن يرى بأنَّ الآية تكرس وتشجع على ممارسة هذه الثقافة واتخاذها منهجاً عاماً تجاه المنحرفين كالشيخ الدهنين، فإِنَّهُ قد يكون فهم أنَّ الآية جاءت على نحو الإنشاء، فهي ستكون كما أنَّ البعض عندما يُهاجم أي شخص يختلف معه بقوله: تباً لك، فإن الله سبحانه وتعالى في الآية المباركة يقول لأبي لهب «تبت يداك»، فهكذا يفهم البعض ما جاء في الآية المباركة في هذا السياق، ولكن هذا الفهم مجانب للصواب، لأنَّ الآية ليست في مقام الإنشاء، وإنما هي في مقام الإخبار بخسران أبي لهب، ولذا فليس لها أي علاقة بتكريس القرآن الكريم لممارسة السبّ في حق المنحرفين إطلاقاً.
وقد يكون السبب في فهم الآية على هذا النحو «الإنشاء» هو ما جاء في الرواية المروية عن ابن عباس والتي تقول: ”صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا، فقال:“ يا صَباحاهُ! ”فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ قال:“ أرأيْتُكُمْ أنَّ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أوْ مُمَسِّيكُمْ، أما كُنْتُمْ تُصَدقُونَنِي؟ ”قالوا: بلى، قال:“ فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ”، فقال أبو لهب: تبا لك، ألهذا دعوتنا وجمعتنا؟! فأنزل الله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾“ [81] .
فهذه الرواية أوحت للبعض أنَّ هذه السورة نزلت فوراً عند قول أبي لهب: «تباً لك ألهذا جمعتنا»، إذ شعر البعض أنَّ هذا المشهد التاريخي الذي تحكيه الرواية هو في سياق الرد عليه ومقابلته بالمثل، فأبو لهب قال للنبي تباً لك، فجاءت الآية الكريمة لترد عليه ولتقول له: «تباً لك أنت يا أبا لهب»، فتكون هذه الجملة بصدد رد إنشاء بإنشاء، رغم أنَّ تب فعل ماضٍ ويراد بها: لقد خسرت يدا أبي لهب، بمعنى خسر عمله ولم ينفعه كل ما فعله في مواجهة الدعوة الإسلامية، بل إِنَّهُ خسر نفسه.
ولذا فإنَّ افتراض أنَّ الآية جاءت في مقام الإنشاء وليس الإخبار مجانب للصواب، لأَنَّهَا احتوت على جملة خبرية عادية، فهي كمثل قوله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[82] ، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[83] . وهذه الجملة الخبرية حتى ولو فرضنا بأَنَّهَا قد تدخل في نطاق السبّ على بعض الآراء «وذلك نظراً لاحتوائها على وصف بالتنقيص كما يقول الشيخ السندي» إلا أَنَّهُ لا يمكن اعتبارها تكرس وتشجع على ممارسة السبّ واتخاذه منهجاً وثقافة عامة يُقابل بها أهل الضلال.
ويمكن التدليل على أنَّ الآية جاءت للإخبار وليس للإنشاء بالقرائن التالية[84] :
§ أولاً: أنَّ هذه الآية القرآنيّة جملة خبرية، وظاهر الجملة الخبرية هو الخبر، والقول بأَنَّهَا جملة خبرية، ولَكِنَّهَا استعملت في مقام الإنشاء يحتاج إلى دليل، ولذا تبقى الجملة على ظاهرها في كونها جاءت في مقام الإخبار.
§ ثانياً: أنَّ الجملة لا توجه الخطاب لأبي لهب مباشرة، وهذا يدلّ على أَنَّهَا لم تكن جملة إنشائية، لأَنَّهَا لو كانت تتكلم معه بصورة مباشرة، فإنَّ الاحتمال سوف يزداد بأَنَّهَا جملة إنشائية، وأَنَّهَا تتضمن التكريس للسبّ والشتيمة وما شابه ذلك.
§ ثالثاً: أنَّ الآيات الأخرى في نفس السورة تنسجم أكثر مع الجملة الخبرية، لأَنَّهَا تتحدث عن إخبار كقوله تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾، وقوله تعالى: ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾، إذ من الواضح أَنَّهَا ليست جملاً إنشائية.
وعليه؛ فعلينا أنَّ لا نصرف الآية القرآنيّة ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ عن ظاهرها ونتكلف القول بأَنَّهَا جاءت في سياق الإنشاء لنستدل بها على تكريس القرآن الكريم وتشجيعه لممارسة السبّ والشتم للمنحرفين[85] .
قد يقول قائل: هناك بعض المباني كالتي اعتمد عليها الشيخ السندي تؤكد بأنَّ أي وصف بالتنقيص يُعد سبّاً، ولا يشترط في ذلك أنَّ يكون المقام مقام إنشاء أو إخبار، ولذا يمكن أنَّ تعتبر هذه الآية سبّاً وفقاً لهذا المبنى؟
وللإجابة نقول:
§ أولاً: مفهوم الآية يخبر بمصير أبي لهب، وليس فيه إرادة التنقيص بهدف الهتك بشكل واضح، بل هي تحكي عن مصير جهوده التي بذلها، فهي بمعنى «لقد خسر أبو لهب خسراناً مبيناً منتهي إلى الهلاك والخيبة ولم ينفعه كل ما فعله من جهود في مواجهة الدعوة الإسلامية».
§ ثانياً: لو سلمنا بهذا الأمر، وهو أنَّ هذه الآية تعتبر سبّاً - بناءً على فرضية ثبوت احتوائها على تنقيص بحسب المبنى المعتمد من قبل الشيخ السندي - فإِنَّهُ مع ذلك لا يمكن اعتبارها تكرس وتشجع لممارسة هذه الثقافة «السبّ والشتم» واتخاذها منهجاً عاماً في مواجهة المنحرفين، لأَنَّهَا لم تأتِ في سياق الإنشاء حتى يُفهم بأَنَّهَا تُطالب بممارسة هذا الأمر.
الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ﴾
كذلك استدل الشيخ الدهنين بهذه الآية على وجود السبّ في القرآن الكريم، وعلى تكريسه وتشجيعه لممارسة هذه الثقافة واتخاذها منهجاً لمواجهة أهل الضلال، وهذا غير صحيح، وسوف يتضح بطلان ذلك فيما سيأتي.
ما هو معنى الزنيم في الآية؟
يقول السيد الطباطبائي حول المراد من الزنيم: ”والزنيم هو الذي لا أصل له، وقيل: هو الدعي الملحق بقوم وليس منهم، وقيل: هو المعروف باللؤم، وقيل: هو الذي له علامة في الشر يعرف بها وإذا ذكر الشر سبق هو إلى الذهن، والمعاني متقاربة“ [86] .
وأما الشيخ حيدر حب الله فيقول حولها: "إذا تأمّلنا في كلمات اللغويين والمفسّرين فنحن نجد أنَّ الكلمة «زنم» ترجع إلى أحد معنيين[87] :
§ المعنى الأوّل: العلامة، فكأنَّ في هذا الشخص علامة يعرف بها، ولهذا قال بعضهم بأنَّ العلامة هي شدّة كفره، أو لؤمه، أو شيء في أصابع يده أو وجهه وحلقه ونحن ذلك. وهناك ما يدعم هذا المعنى - والكلام للشيخ حب الله - وهي رواية صحيحة السند بالاتفاق، وهو أنَّ يكون المراد بالزنيم ذي العلامة، وهي الرواية التي رواها الشيخ الصدوق في كتاب «معاني الأخبار: 149»، عن أبيه، قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن العباس بن معروف، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله : عتلّ بعد ذلك زنيم؟ قال: «العتلّ العظيم الكفر، والزنيم المستهتر بكفره». والمراد بالمستهتر بالفتح في الرواية - بحسب الشيخ حيدر حب الله - هو المولع بالكفر الذي لا يحكي إلا به، بحيث يكون مشتهر به. و"بناءً على هذا يكون معنى هذه الرواية منسجماً مع هذا المعنى اللغوي، وهو أنّه معروف بذلك، وهي علامته، فلا يكون للآية علاقة بموضوع ابن الزنا أو غيره.
§ المعنى الثاني «للزنيم»: الشيء المستلحق بشيء بحيث يكون ذلك تعبيراً عن سقوط قيمته وعدم وجود وزنٍ له، مثل الدعيّ الذي هو ابن زنا لكن يُلْحِقُه شخصٌ آخر به، أو مثل مولى لقوم أو حليف لا يكون بين قومه فيلحق بقومٍ آخرين، كما هي الحال اليوم فيمن يلحق ببلد آخر فيمنح الجنسية لكن لا يعدّه أهل البلد جزءاً من بلدهم.
لذا فإنَّ إطلاق الزنيم على الدعيّ - بحسب الشيخ حب الله - وفقاً لهذا المعنى ”إطلاق مصداقي، وليس هو معنى الكلمة لغةً، إنّما هو تطبيقٌ لها، فالآية بدلالتها اللغويّة تعني - بناءً عليه - أنَّ هذا الشخص حلّاف مهين همّاز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتلٍ، وهو بعد هذا كلّه من صفات الشرّ والتكبّر والغطرسة والظلم شخصٌ لا قدر له، ليس سوى لاحق بقومه ولا يملك وزناً فيهم، ولا هو بالذي يحتاجون إليه، فليس في الآية إذن دلالة واضحة على إرادة ابن الزنا من الزنيم، بل هذا مجرّد احتمال فيها كما صار واضحاً“ [88] .
بعد ذلك يصل الشيخ حب الله إلى النتيجة المتعلقة بحقيقة ارتباط هذه الآية بمسألة السب بقوله: ”وبهذا يتبيّن أنَّ الحديث الصحيح عن أهل البيت وهو الأوثق مصدراً وسنداً، يدعم فرضيّة أنَّ يكون المراد بالزنيم ذي العلامة، أي الشخص المعروف بكفره وولعه بالكفر واشتهاره بالتقوّل ضدّ الدين، ولو رفضنا هذه الرواية على أساس عدم الوثوق بصدورها - بعد حصول التعارض في الروايات وفي كلمات المفسّرين القدامى من الصحابة والتابعين، أو عدم تناسبها الواضح مثلاً مع المعنى اللغوي - فإنَّ المعنى اللغوي لا يعيّن، كما قلنا، تفسيرَ الكلمة بابن الزنا، حتى نقول بأنَّ القرآن يستخدم أسلوب السباب والشتم في حقّ الآخرين، عبر هذه الآية الكريمة“ [89] .
لذلك؛ فإِنَّهُ لا يمكن الاستدلال بهذه الآية على وجود السبّ في القرآن الكريم بحسب المعنى الذي يُفهم من كلام الشيخ الدهنين، فضلاً على إثبات مسألة تكريسه وتشجيعه لممارسة هذه الثقافة واتخاذها منهجاً في مواجهة أهل الضلال.
وكذلك الأمر على المبنى الذي اعتمده الشيخ السندي، لأنَّ الآية جاءت في إطار التعريف وليس التعيير والتنقيص[90] هذا أولاً، ولكونها جاءت لغرض تربوي وهو التنبيه والتحذير ثانياً، فالآية أرادت النهي عن طاعة من عرفته بأَنَّهُ عتل زنيم، وهذا ما يُفهم من سياق الآيات، حيث قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ﴾[91] .
وما أجمل ما ذكره السيد منير الخباز - حفظه الله - حول الآية عندما ذكر أَنَّهَا لا تصف جماعة معينة، بل هي في مقام طرح قضية تربوية عامة، فهي تريد أنَّ تقول: الموصوفون بهذه الأوصاف احذرهم، ولا تكن معهم، وهذا ليس وصفاً لأشخاص حتى يعد سبّاباً، وإنما هو طرح لقضايا تربوية عامة، على الإنسان أنَّ يحذر من هؤلاء الموصوفين بهذه الأوصاف[92] .
ولذا فإِنَّهُ حتى على المبنى الذي اعتمده الشيخ السندي أيضاً لا يمكن اعتبار هذه الآية دليلاً على وجود السبّ في القرآن الكريم هذا أولاً، ولا يمكن كذلك اعتبارها تكرس وتشجع على ممارسته واتخاذه منهجاً عاماً في مواجهة أهل الضلال ثانياً، وذلك لأنَّ الآية جاءت في سياق التعريف ولم تتكلم عن أشخاص معينين وإنما كانت بصدد التحذير والتنبيه بمن يتصف بهذه الأوصاف.
سبّ وشتم أم تصوير فني وأدبي
إذا قلنا بأنَّ القرآن الكريم لم يكرس لثقافة السبّ ولم يدعو لممارستها، فلماذا نجده يشبه البعض بالحيوانات كما في قوله تعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾[93] ، وفي قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾[94] ، وغيرها من الآيات الأخرى التي استدل بها الشيخ السندي على وجود السبّ في القرآن الكريم؟! [95]
نستطيع القول أنَّ القرآن الكريم استعمل التشبيه بالحيوانات في بعض آياته من أجل استعماله لأسلوب التصوير الفني، وهذا الأسلوب معروف واستعمل في العديد من الآيات القرآنيّة، ويستفاد منه في مجالات التربية للتحذير والتنبيه نظراً لتأثيره البالغ في النفوس. أما ما هو المراد من التصوير الفني؟ فيمكن معرفته من خلال ما ذكره الشيخ محمد هادي معرفة في النص التالي:
”التصوىر - وهو تجسىد المعاني - هي الأداة المفضّلة في اسلوب القرآن. فهو ىعبّر بالصورة المتمثلة عن معنى ذهني أو حالة نفسىة، أو عن حوادث غابرة أو مشاهد آتىة، أو عن نموذج إنساني وغرائزه وتصرّفاته في هذه الحىاة. فکأنّما هي صورة شاخصة، وهىئة مشهودة. ثمّ ىرتقى بالصورة التى ىرسمها فىمنحها الحىاة وىفىض علىها الحرکة. فإذا ما أضاف إلىها الحوار فقد استوت لها کل عناصر التجسىد. فما ىکاد ىبدأ العرض حتى ىحىل المستمعىن نظارة، وحتى ىنقلهم نقلاً إلى مسرح الحوادث فىشرفهم علىها، حىث تتوالى المناظر وتتجدّد الحرکات... وحتى ىنسى المستمع أنَّ هذا کلام ىتلى أو مثل ىضرب، وإنّما ىتخىّل أنه حاضر المشهد بمرأى منه ومسمع، ومن ثمّ ترتسم في نفسه سمات الانفعال بشتّى الوجدانات المنبعثة من مشاهدة المنظر، المتساوقة مع الحوادث. نعم إِنَّهَا الحىاة هنا، ولىست حکاىة حىاة. فإذا کانت الألفاظ - وهي کلمات جامدة وتعابىر هامدة، ولىست بألوان تصوىر وأرىاش تحبىر - هي التي تصوّر من المعنى الذهني نموذجاً إنسانىّاً، ومن الحادث المرويّ أو الحالة النفسىة لوحة مشهودة أو منظراً مشهوداً، أدرکنا بعض أسرار الإعجاز في تعبىر القرآن“ [96] .
الآنَّ لنأتي للآيتين السابقتين، ولنرى هل يتناسب ما جاء فيهما مع أسلوب القرآن الكريم في التصوير الفني أم لا؟
§ الآية الأولى: قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أنَّتَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[97] .
يؤكد الشيخ محمد هادي معرفة على أنَّ هذه الآية تحتوي على تصوير فني ففيها ”من التمثيل الرائع وفي نفس الوقت لاذع، إِنَّهُ يمثل مشهد إنسان يؤتيه الله آياته ويخلع عليه من فضله ويعطيه الفرصة للاكتمال والارتفاع... ولكن، ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً، كمن ينسلخ عن أديم جلده بجهد مشقة، ويتجرد من الغطاء الواقي والدرع الحامي، ويهبط من الأفق العالي إلى سافل الأرض، فيصبح غرضاً للشيطان، لا وقاية ولا حمى، وإذا هو ألعوبة أو كرة قدم تتقاذفه الأقدار، لا إرادة له ولا اختيار، فمثله كمثل الكلب هراش لا صاحب له، ويلهث من غير هدف. ويتضرع من غير أنَّ يجد من يشفق عليه“ [98] .
§ الآية الثانية: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[99] .
كذلك الأمر بالنسبة لهذه الآية المباركة، إذ فيها تصوير فني أيضاً، فهي تشير بحسب ما نقله الشيخ معرفة ”لمن حمل ثقل الحق ولا يهتدي به بالحمار يحمل أسفاراً، هي أفضل ودائع الإنسان، يئن بثقلها ولا يعي شرف محتواها: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾ فقد كلفوا حمل أمانة الله في الأرض، لكن القلوب الحية الواعية هي التي تطيق عبء هذه الأمانة، وقد افتقدها هؤلاء فلم يصلحوا لحملها ومرافقتها“ [100] .
لذا فإن ما جاء في هاتين الآيتين وغيرها من التشبيه بالحيوانات هي من قبيل التصوير الفني، وليس بالضرورة من أجل تكريس ثقافة السبّ واتخاذها منهجاً على فرض ثبوتها[101] ، وهذا أمر موجود في القرآن الكريم في العديد من الآيات الأخرى منها ما يلي:
§ قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾[102] .
§ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإنَّ لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[103] .
§ قوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾[104] .
§ قوله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾[105] .
§ قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ۖ وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[106] .
§ قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾[107] .
فكل هذه الآيات تُدلل على استعمال القرآن الكريم للتشبيه ولأسلوب التصوير الفني[108] ، وهذا له فوائد جمة لأنك ”إذا شبهت شيئاً بآخر فإنما تقصد إلى تخييل صورة في النفس تشبه صورة المشبه به المعروفة عند السامع، فيرغب فيه او ينفر عنه حسبما أوتي المشبه به من حظ الحسن أو القبح في النفوس“ [109] .
ولا يخفى ما في ذلك من تحقق بعض الأغراض التربوية سواءً كانت للتشجيع والتحفيز أو للتحذير والتنبيه كما ذكر السيد الخباز.
السبّ في العرف والقانون
قد يقول قائل: بأنَّ العرف في زمن النص «القرآن الكريم» يؤكد أنَّ السبّ يشمل كل وصف يدلّ على الازدراء والنقص، ولذا لا مانع من الدعوة لممارسة السبّ في حق المنحرفون كما دعى الشيخ الدهنين، فلماذا يتم الاستنكار على ما طرحه إذاً؟!
لو سلمنا بأنَّ السبّ في اللغة يشمل كل وصف يدلّ على تنقيص كما ذكر الشيخ السندي تماماً، وسلمنا كذلك أنَّ العرف في زمن نزول النص يؤيد هذا المعنى أيضاً، وافترضنا كذلك بأنَّ جميع القرائن والشواهد بما فيها كلمات جميع العلماء ذهبت لتأكيد هذا المعنى أيضاً، فهل هذا يبرر الدعوة لممارسة السبّ باعتباره ثقافة قرآنيّة؟
أستطيع أنَّ أقول لا وبكل ثقة، وذلك لأمرين:
§ الأول: أنَّ وجود توصيف بالازدراء والنقص في القرآن الكريم لا يعني تكريس القرآن الكريم لهذه الثقافة ودعوته لممارستها كمنهج عام تجاه المنحرفين، بل نحن بحاجة لقرائن تؤكد لنا بأننا مأمورون بممارستها من قبل المولى سبحانه وتعالى.
§ الثاني: أنَّ العرف في زماننا المعاصر تبدل وأصبح يدلّ على كون السبّ منافٍ للأخلاق، لذا فإنَّ الدعوة لممارسة السبّ تجاه المنحرفين على إطلاقه دون بيان المراد الدقيق منه كما فعل الشيخ الدهنين قد يجعل مستمعيه والمتأثرين بكلامه يمارسون السبّ بالعرف السائد في زماننا هذا «بما يتنافى مع الأخلاق»، وليس بالعرف السائد في زمان النص، وهذا فيه من المفاسد ما لا يخفى.
ولذا فإنّ محاولة الشيخ السندي لتكريس ثقافة السبّ، وتبرير ذلك بالقول بأنَّ المراد بالسبّ كان في عرف زمن النص غير المراد بالسبّ في عرفنا المعاصر؛ غير صحيح[110] ، لأننا حتى لو سلمنا بصحة ذلك، فإنَّ من يدعو لممارسة السبّ كالشيخ الدهنين يوجه خطابه لأناس معاصرين «في زماننا هذا»، مما يعني أَنَّهُ يدعوهم - بحسب ظاهر كلامه - لممارسة السبّ بالمفهوم العرفي السائد في زماننا، خصوصاً وأَنَّهُ لم يبين خلاف ذلك للمخاطبين بكلامه.
ولذلك نؤكد على هذه المسألة وهي: أَنَّهُ حتى لو فرضنا أنَّ السبّ في زمن النص لم يكن مقصوراً على مفهوم سيء منافٍ للأخلاق بخلاف الأمر في عرفنا الحاضر، فإن هذا لا يمكن اعتباره مبرراً وجيهاً للدعوة لممارسته، ومن هنا نرى العديد من القوانين التي تشرعها الدول للمعاقبة عليه، فالسبّ لم يعد أمراً قبيحاً ومنافٍ للأخلاق في عرفنا الحاضر فحسب، بل بات جريمة يعاقب عليها القانون أيضاً.
هل الأصل ممارسة السبّ أو الاستثناء؟
لو سلمنا أنَّ كل توصيف يشتمل على تنقيص هو من السبّ كما ذكر الشيخ السندي في العديد من الموارد، فهنا سؤال مهم: هل ممارسة السبّ في حق المنحرفون - بناءً على هذا المبنى - هو الأصل أم الاستثناء في الثقافة القرآنيّة؟
إنني اعتقد بأننا حتى لو بنينا على صحة هذا الفرض؛ فإنَّ هذا الأمر يمثل الاستثناء وليس الأصل، فإنَّ السبّ سيكون حينئذ مثله مثل الكذب والغيبة الأصل فيه عدم الجواز ولكنه يجوز في بعض الحالات الاستثنائية، لأنَّ الأصل هو أنَّ يكون الإنسان في مقام الدعوة، والأصل في مقام الدعوة هو ما بينته الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[111] ، وقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[112] . وفي ذيل هذه الآية المباركة يقول السيد الطباطبائي: ”... ويتحرز المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد والعناد وسوقه إلى المكابرة واللجاج، واستعمال المقدمات الكاذبة وأنَّ تسلمها الخصم إلا في المناقضة ويحترز سوء التعبير والإزراء بالخصم وبما يقدسه من الاعتقاد والسبّ والشتم وأي جهالة أخرى فإنَّ في ذلك إحياء للحق بإحياء الباطل أي إماتة الحق كما عرفت. والجدال أحوج إلى كمال الحسن من الموعظة ولذلك أجاز سبحانه من الموعظة حسنتها ولم يجز من المجادلة إلا التي هي أحسن“ [113] .
ومن الآيات التي يمكن الاستدلال بها على كون ذلك هو الأصل قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[114] . وحول هذه الآية يقول الشيخ حسين الخشن: ”في عملية التعاطي والجدل مع الآخر الذي نختلف معه مذهبياً أو دينياً يدعونا الإسلام إلى الدقة في انتقاء كلماتنا واختيار وتحري الكلمة الأحسن وليس الكلمة الحسنى فحسب، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ «فصلت: 34». وينهانا على استعمال الكلمة الخبيثة، لأَنَّهَا قد تشفي غيظ مطلقها لَكِنَّهَا لن تشرح قلب الآخر إلى الإسلام ونور الهداية“ [115] .
وأما عن كونه هو الاستثناء، فيمكن الاستدلال عليه بما جاء في قوله تعالى: ﴿لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾[116] . وفي ذيل هذه الآية المباركة يقول السيد الطباطبائي: ”وقوله «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» استثناء منقطع أي لكن من ظلم لا بأس بأنَّ يجهر بالسوء من القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، وهذه هي القرينة على أَنَّهُ إنما يجوز له الجهر بالسوء من القول يبين فيه ما ظلمه، ويظهر مساوئه التي فيه مما ظلمه به، وأما التعدي إلى غيره مما ليس فيه، أو ما لا يرتبط بظلمه فلا دليل على جواز الجهر به من الآية“ [117] .
وأما الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، فيقول: ”أمّا المقصود من «الجهر بالسوء»، فقد قال بعض المفسّرين: إِنَّهُ بمعنى لعن المظلوم للظالم، وفسّره البعض الآخر بالسّب والشتم، والبعض الآخر بمعنى الترافع إلى القاضي، أو بمعنى تعرية ظلم الظالمين أمام الناس في الغيبة والحضور. «لكن مناسبة الحكم للموضوع» توجب إباحة هذه الأمور في مجال دفع الظلم، وكسب الرأي العام ضد الظالم فقط، لذا فمن الأفضل أنَّ تنحصر مسألة سبّ وشتم الظالمين بالمجال الذي تكون عاملاً مساعداً للنهي عن المنكر ومحاربة الظلم والفساد“ [118] .
بعض الآيات الناهية عن ممارسة السبّ عند الشيخ السندي
تحدث الشيخ السندي حول قوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وبين أَنَّهُ لا يمكن الاستدلال بها على النهي عن ممارسة السبّ تجاه المنحرفين، وذلك للآتي:
1. أنَّ «قولوا للناس» عام وموضوع آيات السبّ والشتم خاص بالفاجرين المعاندين المحاربين لله ورسوله، وكذلك الحال في الجاهلين في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾.
2. أنَّ دلالة «وقولوا» على اللزوم ظنية، إذاً يحتمل الاستحباب فلا تنافي جواز السبّ المستفاد من دلالة آيات السبّ القطعية، وتكون النتيجة حسن الكلام اللين وحسن السبّ، في خصوص المعاند.
3. أنَّ هناك قرينة قطعية وهي التسالم على جواز سبّ فرعون ونمرود وأمثالهم من المعاندين المحاربين للحق ولا كرامة، وكذلك موارد السبّ المستثناة الأخرى، وهذه توجب حمل الاطلاقات على غير الفاجر المحارب المعاند وعلى غير موارد الاستثناء[119] .
التعليق:
ربما غفل الشيخ السندي في هذا المورد عن أنَّ هناك آية أخرى يُطالب فيها الله سبحانه وتعالى باتخاذ هذا الأسلوب مع فرعون، وهو من الطغاة المعاندين لله ورسوله كما هو واضح، ومع ذلك يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه موسى وهارون عليهما السلام بأنَّ يقولا له قولاً ليناً كما في قوله تعالى: ﴿اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾[120] .
وهذه الآية - كما هو واضح - تنسف ما استدل به الشيخ حيدر السندي حول آية ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، إلا إذ قال أن هذا الأمر ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا﴾ كان قبل معرفة مصير فرعون أو إقامة الحجة عليه، فذاك أمر آخر.
كلمة الختام
ناقشت في هذه الأوراق أهم ما طرحه الشيخين الدهنين والسندي حول مسألة السبّ في القرآن الكريم، وكلي أمل في أن يتم التعامل معها - حتى وإن رُفضت - برقي وبمنهجية علمية هادئة، بعيدة كل البعد عن التصرفات الطائشة والانفعالات غير المنضبطة.