آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 6:47 م

في سبيل رؤية تربوية جديدة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، أصدر المفكر الفرنسي، روجيه جارودي كتابه «البديل»، وكان الكتاب محاولة منه، لصياغة استراتيجية ثقافية كونية للمستقبل. وأشار فيه إلى أن البشرية أضافت إلى إنجازاتها العملية، بالخمسين عاماً التي سبقت إصدار كتابه، ضعف منجزاتها العلمية، منذ بداية التاريخ الإنساني. ومنذ صدور هذا الكتاب، سالت على السطح مياه كثيرة، وتغيرت صورة العالم، في كل الصعد، بشكل كبير ومثير.

لقد بلغ الكشف الإنساني في مجالات الفضاء آفاقاً واسعة، وحط الإنسان أجهزته ومختبراته في مدارات وكواكب جديدة. واختزلت المسافات، وتواصل التطور العلمي، وبلغ مناطق غير مسبوقة، محدثاً ثورات جديدة في مجالات التقانة والاتصالات والبيولوجيا، ونشطت حركة الإبداع الفني والثقافي مستخدمة أساليب وأدوات جديدة. أصبح الحاسب الآلي في كل بيت، ومعه دخل الإنترنيت والبريد الإلكتروني، والقنوات الفضائية، من كل المسارب. وجرى لأول مرة في التاريخ رسم خريطة بيولوجية للإنسان، وتم استنساخ الحيوانات. وأمتنا لا تزال تبحث عن مواضع أقدامها؛ بل وعن بوصلة تضيء لنا عتمة ما نحن غارقون فيه من الضياع وهدر الكرامة والحقوق.

كيف لنا، من الموقع التربوي تجاوز واقع الحال، واللحاق بركب التطور الذي يحاصرنا في جميع المواقع. وكيف ننتقل من استهلاك منتجات الحضارة، إلى المساهمة في صنعها.

إننا في الواقع، نعيش أزمة حقيقية بين أفكارنا وممارساتنا، ولم نتمكن بعد من تحقيق مصالحة بين معتقداتنا وسلوكياتنا. فنحن نفكر خارج التاريخ، فقد تكلس فكرنا ونمونا الذهني، وبات عاجزاً عن مجارات ما يحدث من حولنا من تطور نوعي في مجال المعرفة والفكر.

التاريخ هو الحركة في سيرورتها، وهو التوثيق لنبض حركة الإبداع والإنتاج، الذي يحدد من خلال رصده اتجاه بوصلة المستقبل. ومن دون حركة وعطاء وخلق لا يوجد تاريخ بالمعنى الصحيح. وبالمثل لا يوجد تعاط إيجابي مع الجغرافيا؛ لأن دورنا في التعامل معها دور المتلقي لا الصانع. إن غياب الموازنة في العلاقة بين الزمان والمكان قد أوجد غربة سحيقة، وانفصاماً مراً جعلنا خارج التاريخ والجغرافيا، رغم أننا نعيش في القلب منهما.

ففي الجانب الثقافي، هناك البنية البطركية، بكل مكوناتها القبلية والطائفية والعشائرية والمناطقية، وما يحمله هذا التركيب المجتمعي من عادات بالية وتقاليد عفا عليها الزمن، وتشكل هذه العناصر مجتمعة سداً منيعاً يحول دون كسر العلاقات الاجتماعية القديمة والخروج من شرنقتها. ففي البيت يسود نظام الطاعة بكل قوته وجبروته، وينمو الطفل تابعاً فاقداً للاستقلال والإرادة؛ حيث يكون قد غرست فيه نزعة الانطوائية والاتكالية وقتلت فيه روح العطاء والإبداع. وما أن يشب عن الطوق، ويدخل أبواب المدرسة، حتى يواجه بنظام طاعة آخر أقسى وأكثر صرامة مما واجهه بالمنزل.

إن نظام ومناهج التعليم في مدارسنا لا تختلف كثيراً عن الأعراف والتقاليد، التي ينشأ عليها الطفل داخل منزله، التي تكرس فيه نظام التقليد والجمود والطاعة. وهكذا تتكرر الحال، بالنسبة لأجيالنا الجديدة في دورات ميكانيكية متعاقبة، وفي إيقاع مستمر يتصف بالحوصان والدوران يتواصل معه الصخب، ولكن التاريخ، يبدو فيه متوقفاً، غير قادر على التحرك إلى الأمام. وعند التخرج يواجه جيل المستقبل بحقائق أكثر مرارة وتعقيداً، يدخل ضمنها المحسوبية والواسطة والوجاهة والحسب والنسب.

إذا كان علينا أن نتجاوز واقعنا المزري الراهن، علينا الاعتراف ليس فقط بقوة ورسوخ العناصر التي تكرس التخلف في ثقافتنا، ولكن أيضاً بقوة حراسها والمدافعين عنها. إن هناك أفراداً ومؤسسات عاشوا لفترة طويلة يقتاتون من هذا الواقع ويرون في التعرض له مواجهة مع مصالحهم.. إن التخلف بالنسبة لهم هو حق تهون في سبيل بقائه كل التضحيات. ولن يترددوا من أجل تكريس بقائه، عن استخدام كل الأسلحة بما في ذلك توجيه تهم الهرطقة لكل من ينشد التمدين والتحديث والتطوير والتبشير بالحرية، ونهج التسامح.

وبديهي أن يسود في مناخات كهذه، الجهل وضحالة الفكر وتقديس الخرافة والتمسك بالجامد من النصوص، وقفل أبواب الاجتهاد، وأن تحدث قطيعة معرفية مع العالم.. ومع حالة التداعي هذه، لا تبقى سوى واحدة من ثقافتين إما واحدة تذهب بنا بعيداً في عمق التاريخ، كي تستمر وتدافع عن تكلسها، أو أن تغترب في المكان فتبرز ثقافة السوق وتنتشر الأعمال الهابطة، مهيمنة على كافة مجالات الفنون والأدب والفكر.

ولكي ينتصر مجتمعنا في معركته مع التخلف يجب أن تكون نقطة البداية إحداث تغيير جوهري في المرتكزات الثقافية، وأن يتجه التغيير، إلى المستقبل... إلى الأطفال، إلى الأجيال القادمة، لكي تكون مهيأة لصناعة ربيعنا الواعد وغدنا الأفضل. نحن بحاجة إلى أن نلغي نظام الطاعة من مناهجنا الدراسية، ونضع بدلاً عنه نظاماً قائماً على الاحترام والفهم المتبادل. لا بد من كسر حاجز الخوف لدى أجيالنا الجديدة، وتشجيعهم على تعلم العلم الحق والقول الحق.

لا بد أن تركز المناهج الدراسية على العلوم التطبيقية، والمعامل التجريبية، واستيعاب روح العصر، وإيجاد الحوافز التي تشجع على الاختراع والابتكار، وأن تزول من مناهج التدريس كل الإيماءات التي تروج للخرافة والأوهام والدجل. ينبغي أيضاً إعمال الفكر، والقبول بالرأي والرأي الأخر، وفتح أبواب الاجتهاد، وإعداد الأجيال الجديدة على القبول بالحق في الاختلاف.. واعتماد المناهج الحديثة في التعليم، من أجل خلق جيل واع قادر على المساهمة في الركب الصاعد لمسيرة الإنسان. وقديماً قال أجدادنا «العقل السليم في الجسم السليم».