خطاب التعالي والإقصاء
لدينا إشكالية حقيقية في دور الخطاب السائد ثقافيا، حيث إنه يعبر في معظم الأحيان عن حالة من التعالي باعتبار أن المتلقين إما أنهم تابعون أو أقل وعيا وعلما، وهو بذلك يتجاوز حالة التبادل الفكري والطرح المتوازن والحوار المتكافئ.
من مظاهر هذه الحالة أن طريقة العرض تأتي مبتسرة وغير ناضجة بما فيه الكفاية، بحيث تحاول الوصول إلى النتائج النهائية دون تقديم المبررات والحجج العلمية، وتطرح الأفكار وكأنها مسلمات غير قابلة للاعتراض عليها أو النقاش فيها. مثل هذا الأسلوب التجهيلي يستخدمه المعلم في فصله، والأب في منزله، والخطيب في مجلسه، والامام في مسجده، والإعلامي في قنواته، والسياسي في قراراته، وكذلك المسئول مع موظفيه.
خطاب التعالي الإقصائي هذا مرده إلى الشعور بتمركز السلطة والقوة، أو إلى عدم القناعة العلمية الكاملة بالفكرة، حيث انه في كلتا الحالتين تغيب العقلانية والمرونة والقدرة على مواصلة الحوار بما يتطلبه من الإقرار بأحقية الطرف المقابل وبالتواضع أمامه وهو من اشتراطات نجاح أي حوار.
يقفز الخطاب المتعالي بالحوار إلى مناطق حادة لا وسطية فيها، ويدفع لتصنيف المتلقين ضمن خانات محددة؛ ليسهل بعد ذلك إلصاق التهم الجاهزة بهم. كما أنه خطاب جمعي وتعميمي لا يستثني أحدا، ولا يقر بالتنوع والتعددية ولا يعترف بالاختلاف بين المتلقين.
يحول هذا الأسلوب الفج الناس إلى اتباع وليس شركاء، ويتعامل معهم كآلات متلقية وأحيانا مرددة دون وعي أو نقاش، ولهذا نفتقد في مجتمعاتنا القدرة على الحوار مرسلين أو مستقبلين، فسريعا ما يظهر التذمر والتبرم والنفور من أي نقاش أو جدل في أي قضية، ونميل إلى حسمها بصور قسرية أحيانا.
وبالإضافة إلى أن هذا النوع من الخطاب المتعالي يخلق التوتر بين مكونات المجتمع وما يفرزه من سلوك عدواني متسم بالعنصرية، فإنه أيضا يقود إلى نتائج إقصائية كارثية تنعكس على تدني مستوى الإبداع الفكري والعملي وضآلة الإنتاج الفكري والعلمي.
نحن بحاجة إلى تعرية هذه الأشكال من الخطابات الكثيرة والسائدة والخالية من المضامين الحقيقية، وتعزيز الخطاب العلمي والموضوعي الذي يعطي الجميع الحق في الحوار والنقاش، وينمي حالة النقاش الموضوعي الحر، ويساهم في خلق بيئة مناسبة للابداع والتطوير.